«جيوبوليتيكال فيوتشرز»: التدخل التركي في سوريا يغير خريطة التحالفات
تتغير طبيعة الصراع في سوريا مرة أخرى، حيث حدث تطوران هامان خلال الأسبوع الماضي. أولا، اقترحت تركيا التعاون مع الولايات المتحدة في عفرين و منبج، وكلاهما مسيطر عليهما من قبل الأكراد السوريين، الذين يعتبرهم الأتراك قوات معادية وعلى الرغم من عدم التوصل الى اتفاق رسمى، فقد قال وزير الدفاع الأمريكى «جيمس ماتيس» أن الولايات المتحدة ستعمل مع تركيا لتنسيق أعمالها فى سوريا. وثانيا، يبدو أن الأكراد السوريين على استعداد للعمل مع النظام السوري لصد الهجوم التركي على عفرين وقد قيل إن القوات الموالية للنظام دخلت عفرين في 20 فبراير/ شباط، وهي خطوة تتطلب التنسيق مع وحدات حماية الشعب الكردية، التي تسيطر على المنطقة.
وقد قلل الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» من ادعاءات تورط تركيا في عفرين، وحرص على إظهار أن العملية العسكرية ضرورية ومنخفضة التكلفة لكن مشاركة القوات الموالية للنظام تغير خطط تركيا للسيطرة على المنطقة.
وحتى الآن، استخدمت تركيا عددا قليلا من قواتها في عفرين واعتمدت في الغالب على الجيش السوري الحر وغيره من الجماعات المناهضة للأسد، ولكن مع مشاركة القوات الموالية للأسد الآن في الصراع، ستحتاج تركيا إلى بذل المزيد من الجهد إذا كانت تريد تحقيق نتيجة ناجحة.
سيتعين على تركيا أن تنظر في مقدار الخسائر التي يمكن أن يتحملها الشعب التركي في معركة عفرين وفي الممر الشمالي في سوريا الذي يمتد من الحدود إلى نهر الفرات ومن الصعب أن نعرف ما هي نقطة التحمل لدى الأتراك، ولكن يمكننا أن ننظر إلى التدخلات العسكرية الكبيرة السابقة لتركيا للحصول على أدلة. ففي غزوها لقبرص في عام 1974، تكبدت تركيا ما يقرب من 570 قتيلا وبقوة إجمالية تبلغ 60 ألفا، ومعدل الوفيات هنا يبلغ نسبة 1% لعملية استغرقت شهرا واحدا وضمنت سيطرة تركيا على جزء كبير من الجزيرة.
وكانت تركيا قد ذكرت مؤخرا أن حوالى 30 جنديا تركيا قتلوا فى العملية التى استمرت شهرا فى سوريا، على الرغم من أن هذا العدد قد يكون قليلا. ففي نهاية يناير/كانون الثاني، أعلنت وكالة الأنباء التركية خبرتورك أن 6400 جنديا تركيا سيشاركون في عملية «الزيتون». غير أن مصادر أخرى أفادت بأن تركيا رفعت العدد إلى ما بين 15000 و 20000 جندي على حدود عفرين. (هناك أيضا تقديرات بأن العدد ييبغ 25-30 ألفا بإضافة مقاتلي الجيش السوري الحر الذين يعملون بوصفهم وكلاء لتركيا في سوريا). وبالنظر إلى عدد الخسائر البشرية وفق التصريحات الرسمية، فإن الجيش التركي قد تكبد معدل وفيات بنسبة 0.15% إلى 0.47%، وهى نسبة أقل من ضحايا العملية القبرصية التى لم تواجه ردود فعل عامة واسعة النطاق ولكن الفرق بين قبرص وعفرين هو أنه بعد شهر في عفرين، لا يبدو أن تركيا قريبة من تحقيق هدفها العسكري.
سوريا.. الأكراد وإمكانية التسوية
إن هدف «بشار الأسد» في سوريا الآن هو استعادة السيطرة على أكبر قدر ممكن من الأراضي ومع دخول تركيا إلى عفرين وقربها من حلب، وهي مدينة حاسمة خاضت فيها القوات السورية معركة دامية، فإن «الأسد» لديه خياران: إما تصعيد الصراع العسكري مع تركيا ووكلائها، أو التوصل إلى تسوية. ولتحقيق النصر العسكري في المنطقة، سيحتاج «الأسد» إلى نقل قواته على طول الحافة الجنوبية من عفرين حتى يصل إلى الحدود التركية في الغرب ثم ينتقل جنوبا إلى حيث القوات الموالية لتركيا في إدلب المتمثلة في هيئة تحرير الشام. وسيسعى «الأسد» إلى تطويق وكلاء الأتراك في إدلب وقطع طرق إمداداتهم من تركيا.
ومن وجهة نظر النظام، فإن العمل مع الأكراد منطقي ويمكنه من استخدام 8-10 آلاف من مقاتلي وحدات حماية الشعب في عفرين لصد التوغل التركي وتجنب إنفاق موارده الخاصة كما أنه أمر منطقي بالنسبة للأكراد الذين يواجهون هجوم تركيا مع عدد قليل من الحلفاء، لأن الولايات المتحدة قالت إنها لن تدعم وحدات حماية الشعب في عفرين.
لكن تركيا لديها أيضا خطط لتطويق وحدات حماية الشعب ووقف وصولها إلى حلفائها. ففي 20 فبراير/شباط، أعلن «أردوغان» أن الجيش التركي سيحاول في الأيام القليلة المقبلة أن يطوق عفرين، وسيمنع وحدات حماية الشعب من تلقي الدعم من القوات الموالية للأسد ولذلك فإن تركيا و«الأسد» يطبقان نفس الاستراتيجية على مناطق مختلفة، بينما يحاولان تجنب المواجهة التي يمكن أن تستقطب المزيد من القوى الخارجية وتصعد الصراع.
ويمكن أن يؤدي هذا الوضع إلى تسوية تكتيكية في عفرين. وفي مواجهة خطر معركة أكثر دموية مما كان متوقعا، قد تكون تركيا على استعداد لوقف تقدمها إذا وافق النظام السوري – وكذلك إيران وروسيا – على نقل الأكراد من عفرين ومنبج إلى منطقة شرق الفرات، وإذا كان هناك ضمانات للسيطرة على أعمال الأكراد بعد ذلك، ومن ثم يمكن للحكومة السورية أن تسيطر على المناطق التي كانت تحتجزها كيانات كردية شبه مستقلة لعدة سنوات وقد يوافق الأكراد السوريون أيضا على هذا الترتيب مما سيسمح لهم بتجنب المزيد من إراقة الدماء، ويمكنهم التفاوض على دور لأنفسهم في الحكومة السورية، وقد تقبل ايران، حليف «الأسد»، اتفاقا مثل هذا لأنه سيمنع تقدم تركيا شرقا. ورغم أن مثل هذه التسوية لن تنهي الحرب السورية، ولكنها ستساعد على تخفيف حدة الصراع في عفرين.
يعتمد نجاح هذا النوع من الحل على ما إذا كانت تركيا ستكون راضية عن اتفاق لنقل الأكراد. وإذا كان هدف تركيا النهائي في عملية غصن الزيتون هو تأمين عمق استراتيجي أكبر فإن مثل هذه التسوية ستكون مثل حبوب منع الحمل صعبة الابتلاع ولكنها فعالة خاصة مع كون الجمهور التركي قد لا يتسامح مع عملية عسكرية مكلفة في سوريا، بيد أن هذا الحل يمكن أن يتسبب في انتكاسة لصورة تركيا كقوة عسكرية.
تنافس روسيا وإيران
من جانبها، تريد روسيا التوصل إلى تسوية من شأنها أن تترك «الأسد» قويا ومستعدا للعمل مع قيادة روسيا وليس إيران، وقد يتطلب ذلك استعادة سيطرة «الأسد» على عفرين، وبهذا سوف يعلن الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين» انتصاره ويجلي القوات الروسية قبل وقوع المزيد من القتلى، وقد قدمت روسيا بالفعل اقتراحا يتعلق بتسليم عفرين إلى دمشق، على الرغم من رفضه من قبل الأكراد.
لكن روسيا أشارت أيضا إلى أنها مستعدة للسماح بوجود تركي في عفرين، وكان «بوتين» على استعداد للعمل مع تركيا خلال عملية غصن الزيتون، مما أتاح للأتراك حرية الوصول إلى المجال الجوي فوق عفرين، وكما قال «أردوغان» فإنه قد تحدث إلى «بوتين» يوم 19 فبراير/شباط وأقنعه بمنع الجيش السورى من الانتشار فى المنطقة. (حتى الآن، لم يتم نشر سوى مسلحين مؤيدين للنظام). ولكن يبدو الآن أن «بوتين» سيسمح للنظام بمقاومة تركيا ولكن ضمن الحدود، وإذا كان سيتم إعادة نشر جزء كبير من الجيش السوري، فإن روسيا سوف تضطر إلى المساهمة بمزيد من الموارد للهجوم في إدلب.
يمكن لروسيا تقبل الوجود التركي في عفرين لأن روسيا ستستفيد من المنافسة المتزايدة بين قوتين إقليميتين على طرفي نقيض من الحرب السورية هما: تركيا وإيران. وتتعاون روسيا تكتيكيا مع كلا الطرفين، ولكنها في النهاية لا تريد لأي منهما أن يخرج من الحرب في موقف قوي جدا. وفي الوقت الراهن، تتمتع إيران بأقوى موقف في الشرق الأوسط، وهي قادرة على ممارسة السلطة في العراق وسوريا ولبنان. إن كل من روسيا وإيران تدعمان «الأسد»، ولكن موسكو لا تريد أن تكون طهران قادرة على تحدي المصالح الروسية سواء في الشرق الأوسط أو في القوقاز.
وتعلم روسيا أن إيران لا تستطيع تحمل تكاليف أن تتحدى تركيا «الأسد» بشكل خطير عن طريق أخذ عفرين وبالتالي محاصرة حلب فهذا سيجبر إيران على المزيد الأموال والخسائر البشرية والمادية من أجل وقف هذا التقدم في سوريا، مما يضع مزيدا من الضغط على موارد إيران المتوترة أصلا. وروسيا، في الوقت نفسه، يمكن أن تستمر في تقديم الحد الأدنى من الدعم الجوي في سوريا. وبعيدا عن تسوية بخصوص عفرين بين النظام ووحدات حماية الشعب وتركيا، ستضطر إيران إلى الدفع بعدد متزايد من القوات والموارد لسوريا مع سيطرة تركيا على أراضي جديدة.
اختبار العلاقات الأمريكية التركية
إن نشر قوات مؤيدة للنظام في عفرين يعقد اقتراح تركيا بالعمل مع الولايات المتحدة في عفرين ومنبج. وقد أدت قوة إيران المتزايدة إلى تقريب المصالح الأمريكية والتركية معا، على الرغم من دعم الولايات المتحدة منذ فترة طويلة للأكراد، وعلى الولايات المتحدة الآن أن تقرر ما هو الأكثر أهمية: احتواء إيران، أو دعم الأكراد، وفي حين أن تنظيم الدولة يقع خارج هذه الدينامية فإن الدولة الإسلامية لا يزال يشكل تهديدا، وهذا يترك الولايات المتحدة أمام مشكلة البحث عن حلفاء على الأرض على استعداد لمحاربة تنظيم الدولة.
والسؤال الأكبر: ماذا ستفعل روسيا إذا كانت الولايات المتحدة ستدخل ضد «الأسد» في معركة كبيرة ومطولة؟ ومع تدخل الحكومة السورية في عفرين، فإن التعاون الأمريكي مع تركيا قد يجر واشنطن إلى صراع مباشر مع «الأسد»، إن الولايات المتحدة مستاءة من أن تتعثر في حرب أخرى في الشرق الأوسط، وسوف تشجع تركيا على التوصل إلى اتفاق مع «الأسد» يتيح للولايات المتحدة الحفاظ على الحد الأدنى من القوة هناك لمحاربة تنظيم الدولة وسيكون هذا اختبارا آخر للعلاقات الأمريكية التركية.