أرطغرل وعبدالحميد.. كيف سببت هذه المسلسلات حرباً بين صُناع الدراما الإسلاميين والعلمانيين في تركيا؟
حرب لم تعرف الدراما التركية التنافسية من حيث الهدف والرسالة، خصوصاً التي تتعلق بهوية المجتمع التركي ونمط حياته، تلك الدراما التي خاض صنّاعها معارك تنافسية فيما بينهم في كافة جوانب الصناعة، مثل أفضل ممثل وممثلة، وأعلى مشاهدة، وما إلى ذلك.
في ظل حكم حزب العدالة والتنمية “الذي يعبر عن هوية تركيا الإسلامية” الذي تسلّم حكم البلاد في 2004 ظهرت بعض الأعمال الفنية التي خرجت عن إطار الأحادية المسيطرة على صناعة الدراما التي رسخت للمجتمع التركي صورة متعلمنة، إلا أنها لم تصل إلى حد الوصف بأن هناك منافسة قد ظهرت، وبدء منافس جديد بعرض رسالة تتعارض مع ما استقرت عليه ظروف العمل الدرامي، من أهم تلك الأعمال مسلسل “وادي الذئاب” الذي يذاع منذ 2003 حتى الآن، وفيلما “العراق” 2005، “وفلسطين” 2011، والمسلسل القصير “صرخة حجر”، ولكننا يمكن أن نعد تلك الأعمال تمهيداً لصعود رسالة درامية جديدة، تحمل وجهاً آخر لتركيا غير الذي علق في أذهان كل متابع للدراما التركية.
وفي 2014، مع بداية انتشار الإعلانات على البنايات الضخمة في عموم تركيا عن مسلسلَين “قيامة أرطغرل، وفيلينتا” استشعر الجميع من الحملة اقتراب نزول المنافس الآخر إلى أرض السباق، ربما كانت الحكمة من النزول بالمسلسلَين -اللذين يحملان الهدف نفسه– في وقت واحد هو توفير بديلين للجمهور بنمطين مختلفين، فإذا لم ينَل مسلسل إعجابهم، بالتأكيد سيتعلقون بالآخر، وتفادي هزيمة ربما تؤجّل خوض غمار التجربة بعد زمن.
سرعان ما سطع نجم مسلسل قيامة أرطغرل “مسلسل تاريخي يتناول سيرة سليمان شاه وولده أرطغرل والد عثمان مؤسس الدولة العثمانية”، وأصبحت مواعيد بثّه أشبه بحالة حظر التجوال في الشوارع بقرار شعبي اتخذه ملايين الأتراك بمشاهدة المسلسل، ومن لم يشاهده على شاشة التلفزيون تجده من بين المشاهدين للحلقة على يوتيوب، والذين يصلون إلى المليون مشاهد وأكثر في غضون ساعات قليلة من تحميله على الموقع! تجاوز المسلسل حدود تركيا بعد أن ذاع صيته ولاقى إعجاب عشرات الملايين، وأصبح أحد أكثر مسلسلَين في العالم من حيث المشاهدة؛ لتنسجم المنافسة القارية مع رسالة المسلسل الأممية، والتي تتحدث عن تاريخ دولة حكمت العالم أسسها مَن سمّيت على اسمه على شريعة الإسلام.
لم يكن لعدم استكمال مسلسل فيلينتا الذي تناول بطولات الضباط العثمانيين في آخر عهد الدولة العثمانية أي أثر، كما أنه لا يمكن وصمه بالمُخفق؛ لأن صانع القرار حقق هدفه بإثبات وجوده على الساحة بأرطغرل، ولو حدث العكس ونجح فيلينتا لكانت المعادلة نفسها؛ فالهدف تحقق. لم يستطِع التيار العلماني بكل ما يملكه من خبرات لا ينافسه أحد فيها في هذه المساحة، وإمكانيات مالية ضخمة، الصمود أمام نجاح أرطغرل، وسعى جاهداً بسيل من المسلسلات إلى استعادة جزء مما فقده من مشاهدين وتأثير على نمط الحياة بالشكل الذي ترسخ وظن الجميع أنه لا يمكن تغييره بسهولة! لقد استغرق سنوات وسنوات وترعرعت عليه أجيال وأجيال.
فتح “أرطغرل” المجال لمزيد من الأعمال ومزيد من تحقيق الأهداف، واستعادة ما فقده المجتمع التركي من تراث وهوية، وارتباط بالعالم الإسلامي، وإحياء أمجاد أجدادهم؛ فظهر على الساحة مسلسلا “عبد الحميد الثاني” “وكوت العمارة” اللذان يتحدثان عن أمجاد العثمانيين في العصر الحديث؛ لتستمر حالة النجاح والتفوّق للمنافس الجديد حديث العهد بالصناعة، من حيث الرسالة والهدف.
إطار عمل نمطي سيطر على مضمون العمل الفني للمنافس صاحب الخبرة، الذي يكاد تنحصر أعماله في فكرة الصراع الطبقي بين الأغنياء والفقراء، وذلك ابن الأكابر الذي أحب بنت الحي البسيط والعكس، وروح الانتقام وأيضاً الابن أو البنت غير الشرعيين اللذان يكتشفان بعد تجاوز السنّ أن مَن ربّاهما ليس أباهما، والشخص الذي يكتشف أن أحداً من أبنائه ليس من صلبه، خدعته زوجته للحصول على ميراثه، أو بخطأ وقعت فيه مع عشيقها قديماً!
ربما نمطية الرسالة التي يقدمها هذا التيار، وسخط المشاهدين منها، وفَّر الدوافع لدى شرائح من المشاهدين للبحث عن أعمال مختلفة تحقق لهم غاياتهم، الأمر الذي دفع التيار العلماني إلى التوجه نحو نمط تاريخي على خُطى “أرطغرل” بإنتاج مسلسل عن محمد الفاتح، ربما يحقق المراد ووجدوا معه ضالّتهم، واستعادوا مكانتهم من جديد.
فانتظر الجمهور من الترك والعرب، المسلسل بفارغ الصبر، ولكنهم فوجئوا ومن أولى حلقاته بمشاهد لم ترُق لهم من خلال إظهار نساء بيت الخلافة والحكم بثياب عارٍ وغير محتشم يختلف مع طبيعة وحيثية هذه الأسر المعروف عنها الدين والالتزام والجهاد؛ ففقد الكثير من الجمهور حماسته وعاد لمساحة سعادته ورضاه مع أرطغرل وعبد الحميد، فالمسلسل يسير على خُطى مسلسل حريم السلطان، الذي رآه كثير من المؤرخين والمشاهدين أنه مسيء لأسرة أحد أعظم الفاتحين في التاريخ الإسلامي، وهو السلطان سليمان القانوني.
بدايةً ربما لن تساعد صانعي المسلسل من تحقيق هدفه، أو حتى إحداث حالة على الساحة تشير إلى تقدم ولو طفيف في المنافسة.
لعلني أرى هذه النجاحات لهذا النوع من العمل الدرامي جميلاً، كشخص يحب في المقام الأول الفن الهادف ويقدّره، ويرفض الإسفاف ويعتز بتاريخ أمته، أما بعين الموضوعية فهناك ما هو أجمل في هذا المقام، ويكمن في البذل والعطاء المقدم من الطرفين على الشاشات، واحتكامهم للشارع وسعيهم لتقديم منتج يحوز إعجاب الجمهور، تلك هي الروح التي يجب أن يستحضرها أصحاب المواهب الفنية بعيداً عن أي تأثيرات أخرى جرّدت الفن من مضمونة، وأصبح سلعة ومنتجاً يراد منه تحقيق ربح مالي مهما كانت درجة إسفافه وفراغه من الأهداف النبيلة، التي تساعد المجتمع على مواجهة مصاعب الحياة، والمشاكل التي تُلحق الضرر به.