3 علوم شهدت تطورًا استثنائيا في العهد العثماني
ازدهرت الحركة العلمية داخل المدن العثمانية مثل بورصة وأدرنة وإسطنبول وأماسيا وسراييفو، منذ السنوات الأولى لحكم السلطان محمد الفاتح.
فقد اشتهر السلطان الفاتح بمحبته واهتمامه بالعلم، فأنشأ جامعة إسطنبول، ودعا إليها العلماء من كافة أنحاء العالم الإسلامي ليدرسوا فيها. ومن أهم هذه العلوم التي نجح العثمانيون في تطويرها نجاحا ملحوظا:
1- علم الفلك
يعد هذا العلم عاملا هاما في الثقافة الدينية، بسبب استناد شعائر إسلامية عليه في تحديد مواقيت الصلاة وشهر الصيام. وقد بني أول مرصد فلكي في أوائل القرن التاسع، وكان يعمل فيه فلكيون وتحفظ بداخله تلسكوبات.
وبعد ظهور الدولة العثمانية، تم تأسيس مرصد خاص بها في إسطنبول، وسمي مرصد توبهانة. وكان ذلك برعاية ودعم مالي كامل من السلطان مراد الثالث ورئاسة تقي الدين راصد الشامي، الذي كتب في تلك الفترة أكثر من 30 كتابا في الرياضيات وعلم الفلك والطب.
أسّس في الدولة العثمانية مكتب “منجيم باشيليلك” أي رئيس الفلكيين، وهو المسؤول عن كل من يعمل في الفلك. وأهم وظائفه إعداد التقاويم السنوية، وتحديد أوقات الصيام قبل شهر رمضان، وإنشاء أدوات لوصف حركتي الشمس والقمر،وتحضير الجداول الفلكية للسلاطين والمسؤولين البارزين. إضافة إلى تأسيس مكتب “موقت الناس” أي حافظ الوقت، وهو المسؤول عن حفظ مواقيت الصلاة.
وضعت مكاتب العاملين في مجال الفلك في ساحات المساجد في كل مدينة، وسمي الشخص الحافظ “موقت”، وكان في كل مكتب 16 موظفا، منهم 8 مراقبين و4 كتاب و4 مساعدين.
عمل المرصد من عام 1573 إلى 1580، ثم تم تدميره لخلافات نتجت عن جهل في طبيعة عمله بناء على فتوى من مفتي السلطنة شمس الدين أحمد بدر الدين، الذي توفي بعد بضعة شهور من الهدم. كتب المفتي “إن قرار الهدم يعبر بالدرجة اﻷولى عن اعتقاد فقهي ديني بعدم شرعية الرصد والمرصد”. وبحكم منصب قاضي زاده اﻹداري العالي مفتيا للسلطنة، فإن فتواه تجسد الثقافة العلمية والدينية السائدة في ذلك الوقت”.
فكان هذا المرصد من أهم المراصد في تاريخ الحضارة اﻹسلامية وكانت قصته من أكثر القصص مأساوية.
2- العلاج بالموسيقى والعطور
ذكر تقرير لصحيفة ديلي صباح التركية أن اﻷطباء العثمانيين قبل أكثر من 500 عام، ابتكروا علاجا لذوي اﻷمراض العقلية والنفسية باستخدام الموسيقى والعطور الطيبة والمعاملة الحسنة، وهي الطريقة التي ينصح بها الطب الحديث.
وخلال أعمال الترميم لمشفى اﻷمراض النفسية والعقلية “دار الشفاء” كما يسميها اﻷتراك، في مجمع السلطان العثماني بايزيد الثاني في مدينة أدرنة شمال غربي تركيا، عثر خبراء اﻵثار على رسومات عمرها 500 سنة تعود لمرضى عقليين.
ويلاحظ أن الرسومات الموجودة على الأحجار تكشف عن أحلام ومشاعر المرضى في تلك الفترة، وهي عبارة عن طيور ذات ألوان جميلة كالطاووس، وحيوانات مثل الغزلان، ورسوم أخرى مثل القلاع والزوارق البحرية.
يعود تاريخ تأسيس هذه المشفى إلى عام 1488، وهي دليل على اهتمام الدولة العثمانية بالمجال الطبي، الذي عالجت فيه مرضى عن طريق أصوات المياه واﻹيقاعات الموسيقية والعطور، اﻷمر الذي بعث في نفوسهم الهدوء والاستقرار النفسي.
وفي حوار خاص لوكالة اﻷناضول، مع مدير المتحف الصحي بايزيد الثاني، هاقان أقينجي، قال إن “اﻵﻻف من السائحين واﻷجاتب لا يغادرون مدينة أدرنة دون زيارة مستشفى اﻷمراض العقلية والنفسية بالمجمع”.
وأكد أنهم “يشعرون بالانبهار عندما يرون كيف استخدم العثمانيون الموسيقى والعطور قبل قرون عديدة كعلاج فعال في هذا المجال”.
وتابع أقينجي قائلا: “في عام 2004 منح المجلس الأوروبي، مجمعنا جائزة “المتاحف اﻷوروبية”، نظرا للدور المهم الذي لعبه في هذه الفترة”. مشيرا إلى أن اﻷطباء استخدموا الموسيقى كعلاج في وقت كانت أوروبا تعامل مرضاها العقليين فيه بتعسف وقسوة.
وأوضح أقينجي: “كان المرضى بالمستشفى، يخرجون إلى الحديقة للترويح عن أنفسهم واستنشاق هواء منعش في أوقات معينة، وفي أثناء ذلك حفروا أحلامهم وما بداخلهم من مشاعر على ما صادفوه من أجسام صلبة وجدران”.
3- علم النبات والطب والصيدلة
اهتم الشيخ آق شمس الدين، في القرن الخامس عشر، اهتماما خاصا باﻷمراض المعدية. ووضع قبل ظهور الميكروسكوب تعريف الميكروب قائلا: “من الخطأ تصور أن اﻷمراض قد تظهر ثلقائيا، فاﻷمراض تنتقل من شخص إلى آخر بطريق العدوى، هذه العدوى صغيرة ودقيقة إلى درجة عدم القدرة على رؤيتها بالعين المجردة، لكن هذا يحدث بواسطة بذور حية”.
بعد ذلك بأربعة قرون، جاء الكيميائي والبيولوجي الفرنسي لويس باستور ليقوم بأبحاثه ويصل إلى النتيجة نفسها. وكان الشيخ آق شمس الدين عالما في النباتات، ومدى مناسبتها للعلاج من اﻷمراض، وبلغت شهرته في ذلك أن صار مثلا بين الناس، فيقول المثل العثماني: “إن النبات يتحدّث إلى آق شمس الدين”.
كما اعتنى أيضا باﻷمراض البدنية قدر عنايته باﻷمراض الروحية، أو ما يطلق عليه اليوم اسم اﻷمراض النفسية. واشتهر بلقب “طبيب اﻷرواح” أي طبيب اﻷمراض النفسية. واهتم الشيخ آق شمس الدين أيضا بالسرطان، وكتب عنه. وألّف كتابين في الطب هما: “مادة الحياة” و”كتاب الطب”.
ولد الشيخ آق شمس الدين في دمشق عام 1389، ودرّس السلطان الفاتح في صغره عدة علوم، منها القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه والعلوم اﻹسلامية، باﻹضافة إلى اللغات العربية والفارسية والتركية، وكذلك درّسه العلوم مثل الرياضيات والفلك والتاريخ والحرب. وبثّ فيه قول “لتفتحن القسطنطينية، فلنعم اﻷمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش”.
أسهم العثمانيون خلال مدة حكمهم الممتدة لستمئة عام تقريبا، في تطوير العلوم باعتمادهم على معارف سابقة وحرصهم على البحث والتطوير، كما أثروا وتأثروا في الطابع اﻷوروبي بسبب حركات الترجمة المتبادلة والبعثات التعليمية.