قمة “الناتو” الأخيرة.. مستقبل الحلف وموقع تركيا الاستراتيجي
مضت قمة حلف شمال الأطلسي “ناتو” لعام 2018 وسط إثارة وجدل كبيرين، بسبب الأزمات الدبلوماسية التي عصفت بها، والقرارات التي نتجت عنها.
قبيل القمة مباشرة، وجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عبر وسائل التواصل الاجتماعي، رسائل حادة لحلفاء “الناتو” لا سيما ألمانيا، وذلك بشكل يتعدى حدود اللباقة السياسية، ما من شأنه الضغط على علاقات التحالف بين الدول الأعضاء.
وكانت إدارة ترامب انتقدت بشدة الإنفاق العسكري للشركاء في “الناتو”، حيث قال الرئيس الأمريكي إنه في حال إجراء مقارنة بين الإنفاق العسكري الألماني والأمريكي، فإن قيمة الإنفاق العسكري لألمانيا قياسا على ناتجها المحلي، تبلغ 1 بالمائة، في حين تنفق الولايات المتحدة 4 بالمائة من ناتجها المحلي.
وأشار إلى أن الحلفاء الأوروبيين في “الناتو” استغلوا قدرات الولايات المتحدة العسكرية في الحلف بشكل أكبر من استفادتها منهم، مؤكدا عدم إمكانية القبول باستمرار هذا الوضع.
كما انتشرت ادعاءات حول نية الولايات سحب 35 ألف جندي من قواتها العسكرية المنتشرة ضمن قواعد “الناتو” في ألمانيا، ما أثار قلقا كبيرا بالرغم من نفي البيت الأبيض.
وأدت مواقف ترامب هذه إلى أزمة ضمن قمة “الناتو”، حيث ذكرت مصادر إعلامية أنه وجه انتقادات حادة لرؤساء الدول الأوروبية حول موضوع الإنفاق العسكري، ومن جهة أخرى يمكن القول إنها كانت رسالة للرأي العام الأمريكي، إذ حصلت واشنطن على أفضل ما تريده من حيث الإنفاق العسكري ضمن الشروط الراهنة.
ـ الرؤية العسكرية الجديدة لـ “الناتو”
إن أهم نتائج قمة “الناتو” التي انعقدت في يوليو / تموز 2018 من النواحي العسكرية والاستراتيجية والعملياتية، هو اتخاذ قرار تفعيل المشروع الأمريكي “30 × 4″، الذي يحمل اسم “مبادرة جاهزية الناتو”.
وتنص المبادرة باختصار على تعهد دول حلف شمال الأطلسي بنشر 30 كتيبة قوات برية، و30 سرب طائرات، و30 سفينة مقاتلة، خلال 30 يوما لدى وقوع الأزمات.
كما تعد هذه المبادرة واحدة من الاحتياطات التي اتخذها “الناتو” في مواجهة قدرات الحرب الهجينة الروسية، التي شهدت تطورا كبيرا خلال السنوات الأربع الأخيرة.
واتخذ “الناتو” خطوات حساسة عديدة منذ قمة ويلز عام 2014، مثل رفع عدد عناصر قوات المواجهة إلى 40 ألف عنصر، وتمركز قوات مشتركة عالية الجاهزية قوامها 5 آلاف جندي في الأماكن التي ترى أنها بحاجة إلى ذلك، فضلا عن إرساله قوات إلى كل من بولندا ودول البلطيق.
ـ قدرات تركيا الحساسة والناتو
إن الرؤية العسكرية الجديدة للناتو المذكورة أعلاه، تجعل تركيا تحتل موقعا حساسا لدرجة كبيرة، حيث ستتسلم عام 2021 قيادة القوات المشتركة عالية الجاهزية، ما يتيح لها فرصا مهمة في المشاركة في مستويات عالية بالبعثة التدريبية في العراق.
وعلى الرغم من مساعي بعض حملات الدعاية المضادة لتركيا، إلا أن أنقرة تعتبر شريكا لا يمكن للناتو الاستغناء عنه، إذ تمتلك قدرات عسكرية كبيرة ساهمت في القضاء على تنظيم “داعش” الإرهابي غربي نهر الفرات، على عكس عدد كبير من دول الحلف التي تكتفي بالخطابات الجذابة خلال الاجتماعات في قاعاتها الفاخرة.
كما تمتلك تركيا تجارب كبيرة من عمليتي “غصن الزيتون” و”درع الفرات”، اللتين جرتا وسط دعم كبير من الشعب التركي، فضلا عن الدور الاستخباراتي الكبير الذي تؤديه في مواجهة الإرهابيين الأجانب، من خلال إحكامها السيطرة على حدودها مع كل من سوريا والعراق.
ولذلك يبدو التهديد بإلغاء عضوية تركيا في حلف “الناتو” أمرا مضحكا وفارغا بنفس الوقت، حيث لم تبين الأطراف التي تنادي في هذا الشأن، كيفية ملء الفراغ الذي سينجم عن مغادرة تركيا للحلف، والتحليلات التي لا تتضمن مقترحات سياسية، لا تتعدى حدود الشائعات في المجتمع الدولي.
من جهة أخرى، أكد المسؤولون الأتراك خلال قمة “الناتو” الأخيرة، أن “أنقرة تعتبر من مؤسسي الحلف، وأنها لن تغادره أبدا”، وهو موقف صحيح للغاية، حيث يجب التشديد على ضرورة تعزيز قوة وفعالية تركيا ضمن الحلف، ودعوة الشركاء إلى احترام مصالح تركيا.
كما يجب التذكير في كل فرصة بأهمية الأدوار التي أدتها تركيا ضمن الحلف في مجال الاستخبارات والردع النووي، في الوقت الذي كانت فيه بعض دول “الناتو” لا تزال أعضاء في حلف “وارسو”، فضلا عن دورها الكبير في محاربة التنظيمات الإرهابية مثل “داعش”.
وبالنظر إلى البيان الختامي لقمة بروكسل 2018، نرى أنه يشير إلى أهمية تركيا في 3 جوانب، أولها حزمة الإجراءات الأمنية الإضافية والدعم العسكري الذي قدمه “الناتو” إثر احتدام الصراع في سوريا، والتأكيد بشكل صريح أن كلا من تركيا، ورومانيا، وبولونيا، وإسبانيا، تحتل أهمية كبرى ضمن إطار مشروع “الناتو” للدرع الصاروخي، وثالثها الإشارة إلى خطر الصواريخ البالستية السورية على الأمن القومي التركي.
ـ الحلفاء والتأقلم: المستقبل والناتو والاحتمالات
يعد التأقلم من أهم القدرات التي يتمتع بها “الناتو”، حيث استطاع التحول والتكيف مع موازين القوى الجديدة بعد الحرب الباردة، ومن ثم واصل وجوده بعدما وجد لنفسه هوية جديدة، فعلى سبيل المثال، لم يتشابه مع حلف “وارسو” في القدر، حيث أصبح الثاني جزءا من الماضي بعد الحرب الباردة، على الرغم من فعاليته في ردع الأسلحة النووية والتقليدية.
وفي هذا الإطار، وخلال البحث عن هوية جديدة، دفعت هجمات 11 سبتمبر / أيلول الولايات المتحدة إلى تفعيل المادة الخامسة من ميثاق التأسيس تحسبا لتهديد إرهابي، حيث بدأ الحلف لعب أدوار خارج حدود “الناتو”، إذ تعتبر العمليات في أفغانستان تجربة جديدة في استراتيجية حلف شمال الأطلسي.
ولاحقا، أدى التدخل الروسي في كل من جورجيا وأوكرانيا، وإحاطة دول “الناتو” بأنظمة الصواريخ الباليستية، إلى أداء دول الحلف مهام حرجة ضمن إطار الحرب الهجينة بدءا من 2010.
ويسعى رؤساء “الناتو” من جهة أخرى حاليا، إلى تطوير مفاهيم مشتركة حيال المستقبل، لكنهم يضطرون في الوقت ذاته إلى مواجهة بعض الاضطرابات والأزمات الثنائية بين الدول في صفوف الحلف، وخاصة بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
ـ تركيا بين الثقة بـ “الناتو” والاستعداد للأجندة القادمة
رغم مبالغة بعض الأوساط الدولية حول تركيا، يبدو الوضع بالنسبة إلى أنقرة إيجابيا بدرجة كبيرة، حيث تسود التهديدات والاضطرابات في الحدود الجنوبية والشرقية للحلف، ما يجعل تركيا تحتل موقعا ذا أهمية حساسة بالنسبة إلى الناتو، على الرغم من حملات البروباغندا التي تواجهها.
وهو ما أظهرته قمة الناتو الأخيرة، حيث تم التأكيد خلالها على عدم إمكانية التخلي عن تركيا، بسبب دورها الكبير في ضبط تدفق المهاجرين السوريين، وقدراتها الكبيرة في مواجهة تهديدات الحروب الهجينة.
وإن جازت الإشارة إلى توقعات، فإنه من المنتظر أن تتركز النقاشات في الفترات المقبلة حول ملفي منظومة صواريخ “إس 400″، ومشروع المقاتلة “إف 35”.
يجب على السياسيين والمؤسسات الفكرية والخبراء الأتراك الاستعداد جيدا لهذه الأجندة المحتملة، حيث أظهرت قمة بروكسل الأخيرة مجددا، أن قنوات الدبلوماسية الأطلسية لا تجري عبر عناصر التواصل الكلاسيكية، كما كان الحال خلال الحرب الباردة، إنما تتم بشكل يتناسب مع متطلبات عصر المعلومات.
** جان قصاب أوغلو، محلل في المجال العسكري بمركز “الاقتصاد والسياسات الخارجية للأبحاث / “EDAM” ومركزه إسطنبول.
تركيا بالعربي | الأناضول