العامل “الإسرائيلي” في العلاقات التركية – الأمريكية المتوترة
بغض النظر عن مآلات التوتر الحالي بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية، وكيف سيسوّي الطرفان الخلاف القائم بينهما حالياً، إلا أنها الأزمة الأكبر في العلاقات منذ فترة طويلة جداً، على الأقل منذ حظر توريد السلاح لأنقرة في 1975 على خلفية تدخلها العسكري في قبرص في العام الذي سبقه.
يذكر الأتراك بكثير من التأمّل كيف أن التبعية التي صبغت علاقات بلادهم مع واشنطن خلال الحرب الباردة لم تحمها من التعامل الفوقي من قبل الأخيرة في مرات عديدة، أهمها أزمة الصواريخ الكوبية ورسالة الرئيس جونسون الشهيرة وحظر الأسلحة. لكن السنوات التي تلت تلك الحقبة لم تتضمن ما تشهده العلاقات حالياً من عقوبات على وزراء، سبقها قبل أشهر وقف إعطاء التأشيرة لمواطني الدولتين قبل أن تُعاد جزئياً.
ساهمت عدة أسباب في تشكيل الأرضية المتوترة في العلاقات والتي تنفجر كل حين بطريقة وسقف مختلفين، من بينها دعم واشنطن للفصائل الكردية المسلحة في سوريا، وحمايتها لفتح الله غولن من جهة، وتقارب أنقرة مع موسكو (بما في ذلك صفقة S400 ومشاريع الطاقة) وبدرجة أقل طهران من جهة أخرى، فضلاً عن أسباب أخرى أقل أهمية تصب كلها في معنى واحد: السياسات الخارجية للبلدين باتت متقاطعة ومتناقضة أكثر من أي وقت مضى، إذ تسير العلاقات بين البلدين في منحى تنازلي وتأزيمي واضح في السنوات الأخيرة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا وصلت العلاقات إلى هذه الحالة المتردية في عهد ترامب تحديداً؟ وهل ثمة عوامل أخرى غير ظاهرة للعيان بشكل واضح؟
في الحقيقة، فإن شخصية ترامب بحد ذاتها تصلح إطاراً تفسيرياً لاضطراب العلاقات. فرجل الأعمال القادم من خارج حلبة السياسة نجح حتى الآن في ضرب علاقات بلاده الراسخة مع عدد من حلفائها السابقين، وفي مقدمتهم الأوروبيون، في مقابل لقاءاته “الدافئة” مع رئيسي روسيا وكوريا الشمالية، إضافة لدعوة سخية منه للرئيس الإيراني للقاء والحوار. لكن ذلك لا يبدو كافياً لفهم كيف تصل العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا، اللتين تجمعهما عضوية حلف شمال الأطلسي وشراكة استراتيجية منذ 1995، إلى مستوى “العقوبات” التي تشهرها واشنطن عادة في وجه “محور الشر” أو “الدول المارقة”.
ولذا، فعلينا ألا نستبعد عوامل أخرى مرتبطة بحقبة ترامب وسياساته، خصوصاً الكيان الصهيوني. فهل للأخير أي تأثير على العلاقات المضطربة مؤخراً بين أنقرة وواشنطن؟
ينبغي في البدء التذكير بأن أمن الكيان الصهيوني وضمان تفوقه العسكري والأمني في المنطقة هو أحد الركائز الثلاث للسياسة الخارجية الأمريكية المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط منذ فترة الحرب الباردة، وليس هناك أي مؤشر على حدوث أي متغير إزاءه.
كما أنه من المفيد الإشارة إلى أن العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة في عهد العدالة والتنمية تحديداً؛ شهدت فترة هادئة ودافئة حتى عام 2010 أو 2011، ثم بدأت بعدها موجات التوتر والتصعيد بين الحين والآخر. ولئن رُدَّ ذلك إلى نزوع السياسة الخارجية التركية لنوع من الاستقلالية عن القرار الأمريكي خصوصاً والغربي عموماً، وذلك صحيح بلا شك، إلا أن ذلك لا ينفي حقيقة أن الفترتين المشار لهما تتطابقان بشكل لافت مع فترتي التواصل والقطيعة التركيتين مع الكيان الصهيوني.
فقد بدأ العدالة والتنمية علاقات عادية وأحياناً جيدة مع دولة الاحتلال، فزارها كل من عبد الله غل (وزير الخارجية آنذاك) وأردوغان (رئيس الوزراء آنذاك) عام 2005، وتوسطت تركيا بينها وبين سوريا في مفاوضات غير مباشرة عام 2008. إلا أن عام 2009 شهد حادثتي منتدى دافوس وإهانة السفير التركي في تل أبيب، قبل أن يقطع عام 2010 العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين على إثر الاعتداء على سفينة مافي مرمرة وقتل 10 متضامنين أتراك في عرض البحر.
ورغم أن الطرفين أبرما اتفاقاً في حزيران/ يونيو 2016 أعاد العلاقات الدبلوماسية بينهما، إلا أن ذلك لم يردم فجوة الثقة بينهما ولم يعد العلاقات لسابق عهدها، حيث كانت توصف في تسعينيات القرن الماضي بالتحالف الاستراتيجي.
العلاقة مع الكيان الصهيوني ودعمه ووقف أي نوع من الضغوط عليه والمسارعة في تنفيذ خططه المجنونة بخصوص القضية الفلسطينية، وصولاً للتنصل تماماً من حل الدولتين، تبدو من الركائز الرئيسة لسياسة الإدارة الأمريكية الجديدة، وهو أمر لا ينبغي إغفاله أبداً. أمثلة من عينة تصريحات ممثلة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، نيكي هايلي، بأنها “تلبس حذاءً ذا كعب عال لضرب أي منتقد لإسرائيل”، وعيش سفير الولايات المتحدة في مستوطنة، وغلبة صقور الجمهوريين ومؤيدي الكيان الصهيوني في فريق ترامب، وفي مقدمتهم صهره ومستشاره وموفده للمنطقة، جاريد كوشنر، وغيرها الكثير من الأمثلة تقول بما لا يدع مجالاً للشك بأن مصلحة تل أبيب ورغباتها ركن أساس في صناعة السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة.
وعليه، فمن المهم ملاحظة المواقف التي اتخذتها أنقرة مؤخراً في وجه كل من واشنطن وتل أبيب في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، مثل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، حين قادت تركيا جهداً إسلامياً ودولياً وحشّدت ضد القرار، فضلاً عن دورها المتنامي في القدس تحديداً والذي بدأ يزعج – وفق بعض التقارير – تل أبيب وبعض الأطراف الأخرى، وغيرها من التفاصيل.
صحيح أن العلاقات التجارية بين أنقرة وتل أبيب قائمة ومتنامية، وأن الموقف التركي مبني في معظمه على تصريحات حادة وخطاب عالي السقف، دون أن تتخطى ذلك إلى مواجهة مباشرة مع أي من الطرفين، إلا أن ذلك أغضب القيادة “الإسرائيلية” بشكل واضح، خصوصاً وصف أردوغان دولة الاحتلال بـ”دولة الإرهاب”، وتشبيهه نتنياهو بهتلر. إذ يبدو أن المرحلة تتطلب – وفق واشنطن وتل أبيب – الموافقة و/أو الصمت فقط، ولم يعد هناك أي تحمل حتى للتصريحات المعادية.
ولذا، ختاماً، رغم وجود عدد من الأسباب الوجيهة المتعلقة بشكل مباشر بالعلاقات التركية – الأمريكية، إلا أنه لا يمكن إغفال العامل “الإسرائيلي” في الأزمات بين أنقرة وواشنطن، خصوصاً وأن التصعيد الأمريكي الأخير أتى بعد انفراجة نسبية في العلاقات تمثلت باتفاق الطرفين المبدئي بخصوص منبج، وتعيين سفير أمريكي في أنقرة، وتسليم الأخيرة أولى طائرات “F35” المتفق عليها، كما أن القس الأمريكي – ذريعة التصعيد – محتجز منذ 2016 وليس مؤخراً، بينما شهدت قضيته تطوراً إيجابياً نسبياً بنقله قبل أيام من السجن للإقامة المنزلية الجبرية.
فهل يصح، إضافة لما سبق من أسباب وعوامل، أن نقول: فتش عن تل أبيب؟
سعيد الحاج – عربي21