صحيح أن الأسد يحكم أطلال سوريا، والسيسي ينصب نفسه حاكماً للأبد.. لكنْ هناك ربيع عربي جديد يلوح في الأفق
تسود حالةٌ من الغضب تجاه غطرسة وحصانة النخب السياسية والعسكرية والاقتصادية وتجاه إخفاقات الحكام العرب نتيجة تفشِّي الفساد والإنفاق الحكومي الباهظ، لتُذكِّرنا بأجواء الغضب التي سادت عام 2010 وأوائل عام 2011″ فأدت في النهاية إلى الربيع العربي.
قد تبدو صُور الاحتجاجات الحاشدة في بعض العواصم العربية الآن، حيث يُطالب المُتظاهرون بتنحِّي الحكام الفاسدين كبار السن، صُوراً عفا عليها الزمن خاصة أنها قد جاءت بعد تجارب ثورة مؤلمة في دول الربيع العربي قبل ٨ سنوات انتهى بعضها بنهايات بانقلابات وأخرى بحروب أهلية، لكن الواقع والمستقبل قد لا يكونان كذلك.
السيسي ينصب نفسه حاكماً للأبد.. والأسد يحكم أطلال سوريا
جاكسون ديهل الكاتب المتخصص في الشؤون الخارجية بصحيفةWashington Post الأمريكية استعرض في مقال له كيف نجحت الأنظمة الاستبدادية في تثبيت أقدامها لكنه اعتبر أن ذلك ليس نهاية المطاف.
يقول ديهل: نعم.. عبدالفتاح السيسي يقوم الآن بتنصيب نفسه حاكماً مدى الحياة في مصر، وبشار الأسد يحكم أطلال سوريا، وممالك الخليج -بقيادة المملكة العربية السعودية- أصبحت قمعيةً بصورةٍ أكثر وحشيةٍ من أي وقتٍ مضى.
لكن الجزائر تشهد تظاهراتٍ شعبية حاشدة أجبرت لتوها الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة أن يتراجع عن الترشح لفترةٍ رئاسيةٍ جديدة. وفي السودان، تتواصل الاحتجاجات اليومية رغم كل التنازلات والقمع الذي يُمارسه الرئيس عمر حسن البشير، وانطلقت مسيراتٌ في مختلف أنحاء الأردن الشهر الماضي ضد الفساد.
يقول ديهل: هذا ليس ربيعاً عربياً جديداً على الأقل. إذ لم يسقط نظامٌ بعد. فما تزال جماعة الجنرالات والبيروقراطيين ورجال الأعمال التي تدعم بوتفليقة مُتحكِّمةً في مقاليد الأمور.
ولقي الكثير من المُشاركين في ثورات عام 2011 مصرعهم أو سُجِنوا أو أُصيبوا بالإحباط.
تقول ميشيل دوني، الباحثة التي شهدت الثورة في القاهرة: «يُدرك الكثيرون، ومن بينهم المصريون، أن ثورةً أخرى ستُكلِّفهم ثمناً غالياً. وهم أقل تفاؤلاً بشأن النتائج النهائية مقارنةً بعام 2011».
فشلت جهود ترميم الحكم الاستبدادي
ورغم ذلك، تُشير موجة الاحتجاجات الجديدة إلى استنتاجين يتعارضان مع الرأي السائد داخل واشنطن – أو داخل إدارة ترامب تحديداً.
أولاً، «جفَّ الحطب من جديدٍ في المنطقة، وبدأ الشرر في التطايُر»، على حد تعبير ميشيل. وثانياً، فشلت جهود ترميم الحكم الاستبدادي في إعادة الاستقرار السياسي داخل الشرق الأوسط وفتح آفاقٍ جديدةٍ للتحديث الاقتصادي.
ويتصوَّر السيسي ومحمد بن سلمان أن بإمكانهم اتِّباع نموذج الاستبداد الرأسمالي الذي وضعته وتُروِّج له الصين وروسيا. لكنهم فشلوا في تقديم نماذجٍ اقتصادية ناجحةٍ على غرار شي جينبينغ. إذ أدَّى الفساد ورأسمالية الدولة الصارمة ونقص الكفاءة إلى خروج الاستثمارات الأجنبية الطلوبة بشدة. وأهدر النظامان عشرات المليارات من الدولارات في مشاريع ضخمةٍ مثل إنشاء المدن الجديدة. وتضمَّنت أحدث مُبادرات السيسي للتطوير أنه أمر بطلاء كافة المباني المصنوعة من الطوب في القاهرة بلونٍ رسمي واحد.
وعلى نفس المنوال في الجزائر، وقع النظام المُتحجِّر في حيرةٍ من أمره وهو يبحث عن طريقةٍ لتعويض انخفاض عائدات النفط والغاز. وانخفضت الاحتياطيات الأجنبية بمقدار النصف منذ عام 2013، في حين ارتفعت مُعدلات البطالة لتصل إلى 11%. ولا عجب أن نسبة البطالة تتضاعف في أوساط الشباب، إذ إن ثُلثي سكان الجزائر -الذي يُقدَّر عددهم بـ42 مليون نسمة- هم شبابٌ دون الثلاثين من عمرهم.
أُصيبت المجتمعات العربية بالاكتئاب والإحباط مرةً أخرى بعد فشلها في الازدهار
وتُعاني غالبية دُول المنطقة مزيجاً ساماً من سوء الإدارة والفساد. وأُصيبت المجتمعات العربية بالاكتئاب والإحباط مرةً أخرى، إثر فشلها في الازدهار على الطريقة الصينية أو الروسية. ولَخَّصَ ليزلي كامبل، مُدير البرامج المُخضرم بالمعهد الديمقراطي الوطني، المناخ الإقليمي في مقالٍ صدر مؤخراً: «تسود حالةٌ من الغضب تجاه غطرسة وحصانة النخب السياسية والعسكرية والاقتصادية وتجاه إخفاقات الحوكمة المستمرة التي تفاقمت نتيجة تفشِّي الفساد والإنفاق الحكومي الباهظ، لتُذكِّرنا بالأجواء المُضطربة التي سادت عام 2010 وأوائل عام 2011».
ومن المُؤكَّد أن حالة الاضطراب تمتدَّ إلى الدول التي تتمتَّع بأنظمةٍ سياسيةٍ أكثر تحرُّرية.
إذ إن تونس، الدولة الوحيدة التي خرجت من الربيع العربي في صورة ديمقراطية، تَعُمُّها الإضرابات والتظاهرات. وشهدت العراق أعمال شغبٍ في الصيف الماضي نتيجة انقطاع الكهرباء والمياه. كما أجبرت الاحتجاجات العنيفة في الضفة الغربية رئيس وزراء السلطة الفلسطينية على الاستقالة في يناير/كانون الثاني.
لكن كامبل أشار إلى أن تلك الدول لديها «مساحةٌ للحوار ونوعٌ من حرية التعبير ومُؤسساتٌ سياسيةٌ تستطيع استيعاب والتعامل مع بعض مطالب التغيير -رغم بُعدِها عن الكمال».
ترامب سيكون أحد الخاسرين في حال اندلاع ربيعٍ عربي جديد.
وأدَّت اضطرابات العراق إلى تغيير الحكومة بطريقةٍ سلميةٍ وديمقراطية، وحصل العراقيون على رئيس وزراءٍ ورئيسٍ جديدٍ من المُعتدلين الذين تعهَّدوا بالقضاء على الفساد وتحسين الخدمات.
وما تزال العراق دولةً بعيدةً كل البعد عن الاستقرار، إذ تُعاني تهديد المُتشدِّدين السنة من تنظيم الدولة الإسلامية والميليشيات الشيعية المُوالية لإيران. لكن أوضاعها تبدو أفضل مقارنةً بمصر والسعودية، حيث يُعَدُّ القمع الوحشي هو الرد الوحيد على الاضطرابات والمعارضة السلمية.
وتعتمد استراتيجية إدارة ترامب للشرق الأوسط على الحكومات الاستبدادية. إذ راهنت على أن مصر السيسي وسعودية محمد بن سلمان ستُساعدان على إرساء استراتيجيةٍ إقليميةٍ تهدف لمكافحة إيران. وذلك بافتراض أن تلك الأنظمة تُوفِّر الاستقرار. ولهذا السبب لم تبذل الإدارة جهداً في محاولة الحد من قمع تلك الأنظمة. وبالتالي، سيكون ترامب أحد الخاسرين في حال اندلاع ربيعٍ عربي جديد.