أيقونة الثورة السودانية… والعبث بوعي الجماهير!!
يختلف الإعلام العربي المتطاحن في رؤاه وتوصيفه للأحداث واختياره للمصطلحات والمفردات، غير أنه وبشكل مفاجئ وفي ملفات معينة تصبح مواقفه متطابقة واولوياته متوافقة تماما. ومن هذه المواقف الموقف من فتاة سودانية شابة متأنقة وقفت تشدوا متمايلة فوق سيارة وخلفها الجماهير تردد بعد كل مقطع تشدو به، بكلمة ثورة. التغطية لهذا الحدث كانت استثنائية والتوصيف كان كذلك ومن وسائل إعلامية مختلفة المواقف والرؤى، فإذا بتلك الفتاة توصف بالشجاعة الفائقة وتنال لقب أيقونة الثورة السودانية وإذا بذلك الحماس يكتسح مواقع التواصل الاجتماعي ويتفق على استثنائيته هذه الصورة وروعتها الإسلامي والعلماني واليساري وحتى بعض من الذباب الإلكتروني. لم يتوقف هذا الاندفاع عند العوام بل وصل إلى مفكرين وإعلاميين وأصحاب الرأي بل وصانعيه. فهذا يسخر ممن يصف صوت المرأة بالعورة وهذا يشبهها بتمثال الحرية في نيويورك وآخر يتمنى على الطيب الصالح لو كان حيا حتى يرى إلى أين وصلت المرأة السوادنية… إلى أعلى سقف السيارة!!
وبعيدا عن الإعلام الذي يستطيع حين يشاء أن يحرك الجماهير فتثور ثورة عارمة على كاركايتر دنماركي وضيع، فتقدم ضحايا وشهداء فيما لا تحرك هذه الجماهير ساكنا وهي ترى المساجد في سوريا والعراق تدمر وشعوب مسلمة بريئة تباد وتهجر ويقضى على مستقبل أجيالها بين الإبادة والضياع والتطهير والتهجير ومخيمات الذل والهوان. فإن ما فعلته الفتاة السودانية لم يكن استثنائيا بأي حال، فتاة تشدو في جو آمن، لم تكن تواجه مثلا دبابات العسكر أو كانت تتحدى رصاصات الأمن أو تمضي تحت القصف والتدمير. فلماذا يريد الإعلام في خضم ثورات عربية أن يجعل من شابة أنيقة تتزين بأقراط ذهبية وتتمايل راقصة أيقونة ثورة سودانية؟ ولماذا لم يغطي ذلك الإعلام وفاة إمراة مسنة بالسرطان كانت من المرابطات في الأقصى وقد تعرضت سابقا لاعتداء من مستوطن كسر ساقها؟ ولماذا لا يختار الإعلام إمراة كبيرة السن أو وقورة المظهر وهي تقف أمام جبروت الدكتاتور وصلفه؟ وأين هذا الإعلام من نساء سوريا وقد خرجن من تحت أنقاض الدمار والتدمير بلباسهن المحتشم متماسكات رغم فقدان الولد والزوج والبيت والمسكن؟؟ وأين إعلامنا من ماسأة عبير الجنابي الفتاة العراقية التي اغتصبها جندي أمريكي حتى الموت قتلا وحرقا، وهي شهادة إدانة كبيرة للإرهاب الأمريكي في منطقتنا والذي أنتج إرهابا جعله غطاء لتدمير المنطقة والهيمنة على مقدراتها ولتغيير خريطتها الديموغرافية!!
أين هو إعلامنا ومفكرونا من نسوة في مصر وقفن شامخات وهن يراقبن أحكام الإعدام من نظام السيسي المجرم بحق أبنائهن وأزواجهن وأولادهن وهن صابرات محتسبات متماسكات؟ ألا يستحق هذا الصمود أن يوثق وأن يكون قدوة للأجيال؟ أم أن التمايل والتراقص شرط للفتاة حتى تكون نجمة أو أيقونة أو نموذج يحتذى في وسائل إعلامنا.
لقد استشهدت المسعفة رزان نجار في مسيرات العودة في غزة وهي تسعف الجرحى ممن يواجهون عنف المحتل وسلاحه ورصاصه وهي تتهيأ لزفافها بعد أيام. هنا الشجاعة والبطولة في ميادين الوغى والتي تستحق الاحتفال وليس النشيد الجميل واللحن الشجي فوق سيارة، وفي أناقة لافتة للأنظار. فلماذا لم يتعامل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي مع رزان بعشر ما تعامل مع الفتاة السودانية “كنداكة”؟ وإذا كان للإعلام لغته وأولوياته، فماذا نقول لمفكرين يفترض أنهم من ينشر الوعي بين صفوف الشباب فإذا بهم جزء من جمهور يصفق ويطبل وتصنع له أولوياته وأبطاله!!