عندما يحيي بعض العرب 24 نيسان الأرمني
كلما اقترب تاريخ 24 نيسان “الأرمني” نعود مجدّدا إلى إشهار السيوف وإعلان الاستنفار العام في علاقاتنا التركية الأرمنية. يكون التصعيد دائما بين المدافعين عن المقولة الأرمنية ومروجيها وبين القيادات السياسية التركية التي ترفض كل هذه الطروحات والحملات. هذا العام أيضا كان هناك توتر إعلامي وسياسي ودبلوماسي مع لبنان وفرنسا ويريفان مثلا. وكل مرة تأتي تكون أصعب من سابقتها، فالمشكلة أيضا هي تحرّك عواصم وقوى سياسية كثيرة، وعديدين من أصحاب النفوذ ومراكز التأثير الاقتصادي والإعلامي والاجتماعي الإقليمي والدولي للدخول على الخط، والتمركز فوق تلة المناورات للإشراف على اللعبة. والدياسبورا الأرمنية ناشطة في أكثر من عاصمة، ودول وأنظمة كثيرة جاهزة لمد يد المساعدة، طالما أن المعني هو تركيا وسياساتها ومصالحها الإقليمية.
صحيحٌ أن أنقرة عملت، في العقد الأخير، على إطلاق أكثر من مبادرة سياسية واجتماعية وإنسانية نحو أرمينيا، وكان هناك بعض الترحيب والاستعداد للتعاون، لكن الدياسبورا الأرمنية المتشدّدة في الخارج، والتي لها حساباتها ومصالحها السياسية والانتخابية، هي الأخرى، تصر على التفرد بإدارة الملف، ورفض إعطاء أرمينيا فرصة إعلاء صوتها أو الدخول في حوار ومبادرات، كما فعلت مع تركيا أخيرا.
لن تنتهي المسألة حتما عند ردود الفعل التركية بين التجاهل أو التعتيم أو إطلاق مبادرات محدودة لامتصاص ردود الفعل في كل نيسان، فهناك اليوم أكثر من 20 دولة تقبل ما جرى عام 1915 ضد الأرمن على أنه مجازر. وهناك عواصم إقليمية وعربية، توترت علاقاتها بتركيا في الأعوام الأخيرة، تريد أن يكون لها حصتها في استغلال المسألة للرد على التمدّد والانتشار التركي في مناطقهم وحدائقهم الخلفية، مثل مصر والسعودية والإمارات، وكثير من الشخصيات اللبنانية السياسية والحزبية. وهذه المرة، جاءت الصور والأخبار الجديدة أيضا من بيروت ودمشق والقاهرة وبنغازي عبر الإعلام المعارض لتركيا وسياساتها الإقليمية أو الداعم للعب ورقة الملف الأرمني ضدها حتى النهاية.
وأذاعت الوكالة الوطنية اللبنانية للأنباء أن رأس الكنيسة الأرثوذكسية، أرام الأول، استقبل سفير المملكة العربية السعودية، وليد بخاري، في كاثوليكوسية الأرمن الأرثوذكس – أنطلياس، في حضور الأمين العام لحزب الطاشناق، النائب هاغوب بقرادونيان، ورئيس بلدية برج حمود، مارديك بوغوصيان. وذكرت الوكالة أيضا أن السفير السعودي الذي جال في المتحف، حيث يوجد رفات “شهداء أرمن ونصب تذكاري” لعام 1915، وقال إن “زيارتي اليوم تعبير عن مناصرة بلادي لقضايا الحق، وتمسّكها بفضيلة العدل والاعتدال والإنسانية، ونصرة المظلوم”. وتابع “الشعب الأرمني الأبي والكريم والشجاع.. استطاع أن يبقي قضيته حية في وجدان كل الشعوب المحبة للحق والحياة والعدل والنقاء”.
وفي بنغازي الليبية، حيث تسيطر مجموعات خليفة حفتر، المدعوم سعوديا وإماراتيا ومصريا، وحيث لم نسمع يوما عن وجود أسرة أرمنية واحدة تعيش هناك، أعلنت “الحكومة الليبية المؤقتة” اعتماد يوم 24 نيسان من كل عام “يومًا وطنيًا” لإحياء ما وصف بذكرى “الإبادة الجماعية للأرمن”. ولم يكتف أنصار حفتر بذلك، بل دعوا، في بيان لوزارة خارجيتهم، في “الحكومة الليبية المؤقتة” الجميع إلى التحلي بالشجاعة والجرأة “والاعتراف بهذه الجريمة النكراء بهدف طي صفحة الماضي البغيض، والاعتذار عنها لشعب أرمينيا، والتعويض العادل له، وحتى لا تكرّر المأساة في أي بلد، ولأي شعب من شعوب العالم”. ومحاسبة الاستعمار في ليبيا، وما ارتكب هناك ضد شعبها من مجازر، والثمن الذي دفعه الشعب الليبي إبان الثورة الوطنية ضد الطغيان وحرب الاستقلال ليست بين أولويات هذه المجموعات، كما يبدو.
وفي دمشق، حيث توجد أقلية أرمنية سورية ينبغي احترام حقوقها، يصدر إقرار تدريس موضوع الإبادة الأرمنية المرتكبة عام 1915 من العثمانيين الأتراك في كتب التاريخ المدرسية السورية، اعتبارا من العام المقبل. ووقف خطيب جامع بني أمية الكبير في العاصمة السورية، مأمون رحمة، على المنبر ليتحدث عن ذكرى أحداث عام 1915، ويقول في كلمة إلى “الإخوة الأرمن” معزيا لهم بمرور أكثر من قرن على الحادثة “أستمع إلى تصريح أردوغان وهو يقول إن هذه المجزرة لا أساس لها. عجيب.. هو يريد أن يكذب التاريخ. أأنت تريد أن تكذب التاريخ. أتريد أن تكذب الأحداث والوقائع؟”.
سيعود السوري اللاجئ الذي حل ضيفا، هو وأسرته على الأتراك، إلى المدارس السورية، ليقرأ أن الأتراك ارتكبوا المجازر، وقتلوا مئات الآلاف من الأرمن، فقط لأن النظام ارتأى ذلك ضروريا ضد تركيا وسياستها السورية.
وفي القاهرة، عقد المركز المصري للدراسات الاستراتيجية قبل أسبوعين ندوة “مصرالمستقبل”، استعرض خلالها “ما تعرض له الشعب الأرمني من مذابح جماعية في أوائل القرن الماضي”. وطالب أحد خبراء القانون الدولي المشاركين تركيا بالاعتذار عن “إبادة الأرمن، فالعالم كله دان المذابح الأرمنية”. ولن يكون مردود الاعتذار معنويا فقط، وإنما ستترتب عليه تعويضات مادية، لا بد أن تقدمها تركيا للشعب الأرمني. .. ولواحدنا أن يسأل ما إذا سيصير تحرك مصري ضد أنقرة لتذكيرها بواجباتها مقدمة لمحاسبة الإنكليز على مخلفات استعمارهم لمصر (!).
لماذا تصعّد الرياض ودمشق والقاهرة وجناح خليفة حفتر في ليبيا مثلا ضد أنقرة، وفي الموضوع الأرمني؟ ما علاقة حفتر والمحسوبين عليه بالمسألة الأرمنية، ومن الذين يخططون له ليتحرّك ضد تركيا بهذا الشكل، في موضوعٍ تحوّل إلى ساحة مساومات وبازار علني تراجعت فيه دروس الاحتلال الغربي لليبيا، وثورتها الوطنية ضد الاستعمار، لصالح الدفاع عن الأقليات الأرمنية في العالم، وترويج حقوقها التاريخية في المواجهة مع أحفاد العثمانيين؟ وما الذي ينتظر تركيا في المرحلة المقبلة؟ هل ستكون السعودية مثلا الدولة العربية الثانية، بعد لبنان الذي يعلن قبوله رسميا موضوع الإبادة، ويستعد لإعلان تاريخ 24 نيسان من كل عام يوم عطلة وطنية، يتذكر فيها اللبنانيون ما جرى للأرمن قبل أكثر من قرن، على مرأى فرنسا ومسمعها، وهي الدولة المنتدبة 26 عاما، والتي ما زال نفوذها وهيمنتها وإدارتها قائمة سياسيا ودستوريا، بالمقارنة مع أربعة عصور للوجود العثماني؟
تتحرك الدياسبورا الأرمنية في العالم باستمرار، وبين أهم أهدافها إبقاء الملف الأرمني في قلب الحدث، لقطع الطريق على برامج التذويب، وطمس الهوية الاجتماعية والسياسية والدينية لمئات آلاف من الشعب الأرمني. لذلك نراها تناور باستمرار، خصوصا في بلدان الكثافة الأرمنية، مثل لبنان وأميركا وفرنسا. المشكلة هي في تذكر بعضهم مأساة الأرمن، كلما توترت وتراجعت علاقاتهم مع تركيا.
في حكاية الشيطان وحبل الحمار، قيل لنا إن الشيطان أراد التسلي بزرع فتنة بين الناس، فاختار الحمار الذي كان يرعى مربوطا وسط بستان صاحبه، ففك حبله، وتركه يدخل بستانا مجاورا يأكل من زرعه الذي تعب صاحبه في حرثه وبذره وسقيه، جاءت صاحبة الزرع غاضبة، وبيدها بندقية الصيد. لمحها صاحب الحمار، فأطلق النار عليها، وهو يعتقد أنها تريد قتله هو وحماره. ركض ابنها الذي كان يتابع المشهد من بعيد، فأخذ البندقية المرمية على الأرض وقتل جاره. وهكذا اشتبكت الأسر ثم الأقارب وأهل القرية، والشيطان يتفرج ضاحكا. اقترب شيطان آخر يسأله: كيف فعل ذلك كله بإعجاب وغبطة؟ فقال: لم أفعل أي شيء.. فقط أطلقت سراح الحمار.