هل ضاعت كل هذه المليارات؟ كيف غيرت السعودية التدين الباكستاني، ولكنها أخفقت في هدفها الأصلي؟
يُعَدُّ مسجد شاه فيصل (أو مسجد الملك فيصل) أكبر مساجد باكستان، كما أنه يعد رمزاً لمقدار النفوذ السعودي في باكستان.
وبُنِيَ هذا المسجد بمنحةٍ تبلغ قيمتها 120 مليون دولار من المملكة العربية السعودية. وكان المسجد أكبر مساجد العالم على مدار بضع سنوات منذ إتمام إنشائه عام 1986.
وسُرعان ما تحوَّل إلى أشهر الهياكل المعمارية في باكستان، ليتفوَّق بذلك على الكثير من المباني ذات الأهمية التاريخية التي أُنشِئَت قبل قرون -وهو الأمر الذي يتناسب رمزياً مع تزايد النفوذ السعودي داخل البلاد، حسبما ورد في مقال لمديحة أفزال، الزميلة الزائرة ببرنامج السياسة الخارجية بمعهد بروكنغز. نشره موقع معهد بروكنغزالأمريكي.
أموال طائلة رسخت النفوذ السعودي في باكستان على مدار عقود
تميَّزت العلاقة بين باكستان والسعودية منذ السبعينيات بتدفق مبالغ طائلة من أموال المملكة الرسمية إلى باكستان، ويشمل ذلك أموال المساعدات والإغاث -وتُقدَّر تلك الأموال بمليارات الدولارات، رغم عدم وجود إحصائيةٍ واضحة عن الرقم الإجمالي.
إلى جانب تزويد السعودية لباكستان بالنفط مجاناً لمدة ثلاث سنوات، في أعقاب العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة على باكستان، إثر الاختبار النووي الذي أُجرِيَ عام 1998.
ويُعَدُّ التمويل السعودي-الأمريكي المُشترك للجهاد الأفغاني ضد السوفييت في الثمانينيات من أبرز مظاهر تلك العلاقة، وهي الأموال التي استخدمتها باكستان لتسليح وتدريب المُجاهدين الذين خاضوا الحرب.
واستمرت العلاقة الوثيقة بين البلدين خلال فترات الزعماء الديمقراطيين والعسكريين على حد سواء، بدايةً من مُشاركة رئيس الوزراء ذو الفقار علي بوتو في رئاسة المؤتمر الإسلامي بلاهور عام 1974 (بمباركةٍ من الملك فيصل)، ووصولاً إلى الجهاد الأفغاني إبان فترة نظام الرئيس محمد ضياء الحق العسكري، وانتهاءً بأموال الإغاثة التي مُنِحَت لحكومة رئيس الوزراء نواز شريف عام 1998 إثر توقيع العقوبات الأمريكية. ووفَّرت المملكة ملاذاً للزعماء الباكستانيين السياسيين المنفيين، ومنهم شريف الذي فرَّ إلى هناك حين أطاح به الجيش من منصبه عام 1999.
حتى إن الرياض عينت جنرالاً باكستانياً قائداً لـ «التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب»
وفي عام 2017، أعلن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ووزير الداخلية آنذاك، تعيين رحيل شريف، رئيس أركان الجيش الباكستاني الأسبق، أول قائدٍ لـ «التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب» الذي ضَمَّ العديد من الدول بعد تأسيسه على يد ولي العهد عام 2015.
ازداد تقارب العلاقات بين رئيس الوزراء الجديد عمران خان ومحمد بن سلمان خلال الأشهر الأخيرة، إذ سافر بن سلمان إلى باكستان في زيارته الرسمية الأولى التي أثارت ضجةً كبيرة خلال شهر فبراير/شباط عام 2019، ليُوقِّع مُذكِّرات تفاهم بقيمة 20 مليار دولار من أجل مُساعدة الاقتصاد الباكستاني المُتعثِّر وتخفيف وطأة الضغوطات عن خان.
المدارس الدينية مصدر التأثير العميق للسعودية
ورغم النفوذ السعودي الواضح للعيان على باكستان، لكن ذلك النفوذ كان على نفس القدر من الأهمية وراء الكواليس. إذ كانت الأموال تتدفَّق إلى المدارس (الدينية) التي تُدرِّب المُجاهدين في الثمانينيات قبل بدء الجهاد الأفغاني، واستمرت بعد نهايته كذلك.
ولا يُمكن تتبُّع مصدر تلك الأموال وصولاً إلى السعودية بسهولة؛ إذ تتلقَّى المدارس الباكستانية التبرُّعات الخاصة، وتُنكر مصادر التمويل السعودية إنكاراً قاطعاً، لكن الباحثين والمُحلِّلين أوردوا في تقاريرهم أنَّ الأموال الخاصة السعودية هي المسؤولة عن تمويل «مدرسة أهل الحديث» و «المدرسة الديوبندية» في باكستان.
ويُعَدُّ فِكر أهل الحديث والديوبندية في الإسلام أكثر تزمُّتاً من الفكر الصوفي الذي يُعتَنَقُ عادةً في جنوب آسيا، حسب المقال، إلى جانب أنَّ فكر أهل الحديث، الأكثر تشدُّداً بين المدرستين، يُطابق الإسلام السلفي أو الوهابِّي الذي تعتنقه السعودية.
ولقد أدت لزيادة التطرّف والطائفية في باكستان
وربط فالي نصر بوضوح بين المدارس الباكستانية وارتفاع موجة الطائفة والتشدُّد السُنِّي في البلاد من جهة، والتمويل السعودية من جهةٍ أُخرى. إذ ذكر مثلاً أنَّ ازدياد أعداد المدارس داخل باكستان بين عامي 1975 و1979 كان مدعوماً بأموال ممالك الخليج، وهو تمويلٌ يسبق حقبة الجهاد الأفغاني. وأشار أيضاً إلى أنَّ 1,700 من أصل 2,500 مدرسة مُسجَّلة داخل باكستان، خلال عام 1996، كانت تتلقَّى الدعم من مصادر غير باكستانية. وجادل نصر بأنَّ التمويل السعودي للمدارس الباكستانية هو جزءٌ من «سياستها الإقليمية المُناهضة لإيران»، وأجندتها لنشر «نسختها من السُنِّية عن طريق التعليم الإسلامي«، بهدف السيطرة على «الحياة الفكرية والثقافية» للعالم الإسلامي.
وجادل كذلك بأنَّ المملكة ليست الدولة الوحيدة التي لديها تلك الطموحات -إذ كانت العراق تمتلك دوافع مُماثلة- قائلاً إنَّ الدولتين كانت لديهما «مصلحةٌ راسخة في الحفاظ على الطابع السُنِّي لأسلمة باكستان». لدرجة أنَّ مواقع المدارس الباكستانية كانت جزءاً من السياسة السعودية المُناهضة لإيران، إذ أوضح نقلاً عن أحد المُراقبين: «إذا نظرت إلى مواقع تشييد غالبية المدارس، ستُدرِكُ أنَّها تُشكِّل حائطاً لصدِّ إيران وإبعادها عن باكستان» . وعلى الجانب الآخر، تُشير التقارير إلى أنَّ مدارس باكستان الشيعية تتلقَّى التمويل من إيران.
يشير أحد التقديرات إلى أنَّ أعداد المدارس في باكستان تضاعفت ثلاث مرات بين منتصف السبعينيات ومنتصف التسعينيات. وهُناك خلافٌ حول الرقم المُحدَّد لتلك المدارس الدينية، لأنَّ هُناك الكثير من المدارس التي لا تزال غير مُسجَّلةٍ داخل باكستان، وتُقدَّر أعدادها بالآلاف.
وتعرَّضت المدارس الباكستانية للتدقيق العالمي في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، ورغم أنَّ التقارير الأوَّلية قدَّرت أعدادها بعشرات الآلاف، لكن مجموعةً من الأكاديميين استخدموا بيانات المسح الإحصائي ليُظهِروا أنَّ المدارس في باكستان أقل انتشاراً مما زعمه البعض، وأنَّها تحظى بنسبةٍ ضئيلة للغاية من إجمالي الطُلاب المُلتحقين بالتعليم (أقل من 5% في غالبية مناطق البلاد).
ورغم ذلك، فإنَّ الكثير من تلك المدارس تقوم على أساسٍ أيديولوجي، وتُدرِّس الطلَّاب وجهةٍ نظر مُتحيِّزة عن العالم، ويُظهِرُ طُلَّابها تسامحاً مُنخفِضاً مع الأقليات وميلاً أكبر للجهاد. وتتجاوز أهمية المدارس الدينية أعدادها: إذ يتحوَّل خريجو تلك المدارس إلى خُطباء في المساجد، ويُدرِّسون صفَّ الدراسات الإسلامية الإلزامي في المدارس العامة. وهُناك عددٌ ضئيل من المدارس المُتشدِّدة التي ارتبطت مُباشرةً بالتشدُّد والإرهاب داخل باكستان، ومنها «دار العلوم حقانية» في أكورة ختك، والتي أدارها الزعيم الإسلامي الراحل سميع الحق.
وأموال الإغاثة تذهب إلى المشايخ
وأخذت أعداد المدارس داخل باكستان في التزايد إلى ما بعد مُنتصف الألفية الثانية.
وأفادت برقيةٌ قُنصليةٌ أمريكية، أُرسِلَت إلى وزارة الخارجية عام 2008 حول تجنيد المُتشدِّدين في جنوب بنجاب، بأنَّ الأموال المُوجَّهة لإغاثة منكوبي زلزال كشمير بعد عام 2005 عن طريق الجمعيات الخيرية -مثل «جماعة الدعوة» (منظمة لشكر طيبة الخيرية) و «مؤسسة الخدمة»- والأموال القادمة من السعودية تحديدًا، «حُوِّلَت إلى مشايخ أهل الحديث والديوبندية في جنوب وغرب بُنجاب، من أجل توسيع وجود تلك الطوائف وسط أرضية تجنيدٍ (مُتشدِّدة) مُعادية بطبيعتها ويُحتمل أن تكون مُثمرة.
وأدَّى النجاح الأوَّلي في إنشاء المدارس والمساجد داخل تلك المناطق إلى تبرُّعات سنوية لاحقة، حصل عليها المشايخ أنفسهم من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة». وربطت البرقي بين النُمو «المُتزايد» في أعداد المدارس داخل تلك المنطقة آنذاك، وبين ازدياد تجنيد المُتشدِّدين.
وهكذا غيرت السعودية الإسلام الباكستاني
وتمضي البرقية إلى مُناقشة حجم التمويل وتحديد مصادره بدقةٍ أكبر: «تزعم المصادر الحكومية (الباكستانية) وغير الحكومية أنَّ الدعم المالي يُقدَّر بـ100 مليون دولار أمريكي سنوياً، ويَصِلُ إلى مشايخ أهل الحديث والديوبندية في المنطقة عن طريق المنظمات التبشيرية والجمعيات الخيرية الإسلامية داخل المملكة السعودية والإمارات في الظاهر، وبدعمٍ مُباشر من حكومات تلك البلدان».
وأدَّى ذلك إلى تغيير طبيعة الإسلام الذي يُمارس ويُدرَّس داخل باكستان، وهو الإسلام الذي كان يميل إلى الفكر الصوفي أكثر من غيره.
ولكن أصول الديوبندية هي أصول محلية، إذ تعود إلى المدارس التي أُنشِئت بصفتها جزءاً من إعادة إحياء الإسلام داخل الهند في القرن الـ19، لكن أتباع الديوبندية يُعارضون الإسلام الصوفي أو «الشعبي» ومفهومه الرئيسي الذي يعتمد على شفاعة الأولياء (ويعتنق أتباع البريلوية ذلك المفهوم).
ويُعَدُّ فكر أهل الحديث أكثر تزمُّتاً، لذا يرتبط بالجماعات المُتشدِّدة: إذ تعتنق جماعتان مُتشدِّدتان في باكستان ذلك الفكر، وهما «لشكر طيبة» التي تُركِّز على كشمير، وجماعة «لشكر جهنكوي» المُناهضة للشيعة. إلى جانب أنَّ «مركز الدعوة والإرشاد» ومدرسة «لشكر طيبة» في مُريدكي هُما من المدارس الدينية لأهل الحديث.
ويشير بعض التقديرات إلى أنَّ 80% من المدارس في باكستان تعتنق الفكر الديوبندي. إلى جانب أنَّ الحزبين الرئيسيين في باكستان، «جمعية علماء الإسلام» و «الرابطة الإسلامية الباكستانية»، يعتنقان الفكر الديوبندي الذي خرج من مدرسة ديوبند في ولاية أتر برديش الهندية، والتي تأسَّست عام 1866 داخل الهند الاستعمارية. وتعتنق حركة «طالبان» أيضاً نُسخةً مُتشدِّدةً من العقيدة الديوبندية. في حين جادل فالي نصر بأنَّ السعودية هي المسؤولة، فكرياً ومالياً، عن الطفرة الجديدة للديوبندية في العالم الإسلامي.
ولكن هذا التحالف له حدود
ورغم علاقة السعودية الوثيقة بأحزاب باكستان الإسلاموية الديوبندية، لكن ذلك التحالف كانت له حدوده أيضاً.
إذ يُحاول الساسة الإسلامويون في باكستان ألا يظهروا بصورةٍ طائفيةٍ علناً، وأوضح نصر أنَّ هذا التصدِّي دفع السعودية إلى البحث عن مكانٍ آخر يُلبِّي طموحاتها الطائفية داخل باكستان -وتحديداً «جمعية أهل الحديث»؛ لذا بدأوا في دعمهم.
وبشكلٍ عام، تأتي «سعودة» باكستان والطبيعة المُتغيرة للتديُّن داخل البلاد من الأسفل إلى الأعلى -عن طريق تأثير المدارس والعلماء- بدلاً من الأعلى إلى الأسفل، رغم تحالف نظام ضياء العلني مع السعوديين في الثمانينيات وأسلمته لقوانين ومناهج البلاد في الوقت ذاته. وهذا يعني أنَّ الدولة الباكستانية لم تتبنَّ شخصيةً طائفية صريحة على الإطلاق، أو تتبع فكراً إسلامياً بعينه في هذا الشأن، رغم أن المؤسسة يغلب عليها الطابع السُنِّي. وهذا أمرٌ منطقي بطبيعة الحال، نظراً لطبيعة حكومتها غير الثيوقراطية، ولكنَّه فارقٌ دقيق يستحق الذكر صراحةً.
علاقةٌ وثيقة بالساسة والجيش على مدار عقود
عقد رئيس الوزراء ذو الفقار علي بوتو القمة الإسلامية الثانية -وهي اجتماعٌ لـ «مُنظمة التعاون الإسلامي»- في لاهور خلال شهر فبراير/شباط عام 1974. وحضر الملك فيصل، رئيس المُنظمة، المُؤتمر الذي شهد تعيين بوتو رئيساً مُشاركاً. واختار فيصل إقامة المُؤتمر في شهر فبراير/شباط تحديداً (مما دفع شاه إيران إلى عدم الحضور).
وأراد بوتو استرضاء السعوديين لتعزيز رصيده الإسلامي الخاص في بلاده على الأقل؛ إذ كان يتعرَّض لضغطٍ سياسي مُستمر من إسلامويي البلاد إبان فترة حُكمه، ويُعزى ذلك جزئياً إلى افتقاره الشخصي للتديُّن.
ويُذكر أنَّ الشاه قال عنه: «يحرص بوتو على إرضاء العرب بشدة، لدرجة أنَّه بدأ يتحدَّث عن الخليج دون التلميح إلى صفته (الفارسية) بالغة الأهمية». ويُقال إنَّ الملك فيصل أثَّر على قرار بوتو بتصنيف الأحمديين، الأقلية الدينية المُضطهدة، بأنَّهم غير مُسلمين في وقتٍ لاحق من العام نفسه.
الثورة الإيرانية والحرب الأفغانية نقطتان فارقتان
وشهد عام 1979 حدثين تاريخيين -الثورة الإسلامية في إيران، والغزو السوفيتي لأفغانستان- وهما الحدثان اللذان أدَّيا إلى زيادة النفوذ السعودي داخل باكستان لاحقاً. إذ زادت الثورة الإيرانية إلزام السعودية بتنمية القوى السُنِّية داخل باكستان، إلى جانب أنَّ الجهاد الأفغاني وتدريب المُجاهدين الذي اضطلعت به باكستان مَنَحَ السعوديين وسيلةً للقيام بذلك، عن طريق تمويل مدارس الديوبندية وأهل الحديث داخل البلاد. ووفَّرت تلك المدارس القوى العاملة والأيديولوجية التي غَذَّت الجهاد الأفغاني.
وتقترح بعض المصادر أنَّ أعداد المدارس تزايدت تصاعدياً خلال تلك الفترة؛ إذ أفادت مريم أبوالذهب، المستشرقة الفرنسية الراحلة، بأنَّ «المساجد والمدارس الدينية ذات الانتماءات الطائفية بُنِيَت في كل مكان (خلال ذلك العقد)، فوق أراضي الدولة على الأغلب».
وتكامل هذا التوجُّه مع مشروع ضياء المُوازي لأسلمة باكستان، والذي تشارك خلاله مع «الرابطة الإسلامية الباكستانية» إبان شروعه في أسلمة مناهج المدارس العامة. وأدخل ضياء تعديلاً على قانون العقوبات الباكستاني خلال ذلك العقد، إذ فرض عقوبة الإعدام على تُهمة الكُفر، إلى جانب عقوبات جسدية (تُشبه العقوبات السعودية) مثل الرجم حتى الموت بتُهمة الزنا وقطع اليد بتُهمة السرقة، لكن أكثر العقوبات تشدُّداً لم تُنَفَّذ على أرض الواقع.
وتكهنات بوجود شراكة نووية
وتعاونت باكستان مع السعودية في مجال الدفاع على مدار عقود، إذ كانت العلاقات العسكرية المُتبادلة قويةً قبل ضياء، واستمرت بنفس القوة إثر اغتياله. علاوةً على وجود تكهُّنات بشراكةٍ نووية بين البلدين، رغم إنكار البلدين لذلك. وتمتَّعت باكستان بعلاقةٍ اقتصادية قوية مع السعودية، واستمرت تلك العلاقة على مدار الأنظمة العسكرية والمدنية التي حكمت البلاد.
إذ تتبادل الدولتان تُجارياً بكميات كبيرة، حيث تتمتَّع باكستان بفائضٍ أكبر من المملكة العربية السعودية. وسافر أكثر من مليوني باكستاني إلى السعودية للعمل على مرِّ السنوات، وساعدت تحويلاتهم المالية الاقتصاد الباكستاني، إلى جانب أنَّ تحويل الزكاة من تلك التحويلات والأرباح إلى المدارس يُفيد السعودية إفادةً كُبرى.
والرياض أنقذت اقتصاد البلاد مراراً
وساعدت السعودية على إنقاذ الاقتصاد الباكستاني في أكثر من مناسبة. ومنها عام 1998 إثر الاختبارات النووية الباكستانية التي أسفرت عن عقوبات اقتصادية، كما ذكر سابقاً.
إلى جانب قرضٍ بقيمة 1.5 مليار دولار، منحته السعودية لباكستان عام 2014، من أجل دعم الاقتصاد. وكان نواز شريف هو رئيس الوزراء في المُناسبتين السابقتين. علاوةً على أنَّ الأمير الوليد بن طلال وصف شريف ذات مرةٍ بأنَّه «رجل السعودية في باكستان«.
ولكن البرلمان الباكستاني فاجأ السعوديين في حرب اليمن
غير أن العلاقة الدائمة ما تزال مشروطة، ففي خُطوةٍ مُفاجئة خلال شهر أبريل/نيسان عام 2015 (إبان فترة حكومة شريف، وبعد فترةٍ قصيرة من تلقِّي قرض الـ1.5 مليار دولار عام 2014)، صوَّت البرلمان الباكستاني بأغلبيةٍ ساحقة من أجل البقاء على الحياد في التدخُّل السعودي ضد الحوثيين في اليمن.
ويبدو أنَّ قرار البرلمان أخذ السعودية على حين غرة، لأنَّها أدرجت باكستان على قائمة الدول التي ستنضم إلى تحالفها، مُفترضةً أنَّ باكستان لن تتأخر عن مُساعدتها في اليمن.
في حين قالت باكستان إنَّها لن تُرسِلَ الجنود أو الإمدادات إلى اليمن، ولكنها أكَّدت على أنَّها تقف «جنباً إلى جنب» مع السعودية. وكانت إيران أحد الأسباب الرئيسية لتدخُّل السعودية في اليمن، إذ ترى السعودية أنَّ الحوثيين مدعومون من قِبَل طهران.
لذا يبدو أنَّ ردَّ فعل باكستان على التدخُّل السعودي آنذاك يعكس بوضوح الكيفية التي تُوازن بها إسلام آباد بين علاقاتها مع السعودية وعلاقاتها مع إيران، مع التأكَّيد على صداقتها ودعمها للرياض. وليس من المُستغرب أنَّ الأحزاب الإسلاموية المُوالية للسعودية مثل «جمعية علماء الإسلام»، والجماعات الأصولية مثل «جماعة الدعوة»، قادت احتجاجات حاشدة في شوارع المُدن الباكستانية اعتراضاً على قرار البرلمان.
بن سلمان وعمران خان صداقة خلقتها أزمة خاشقجي
أقام ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ورئيس الوزراء الباكستاني عمران خان صداقةً انتهازية خلال الأشهر القليلة الماضية، (حسب وصف المقال)، فرضتها نوعاً ما أزمة الديون الباكستانية الأخيرة ورغبة خان في أن ينأى ببلاده عن اللجوء لقروض صندوق النقد الدولي، إلى جانب مُشكلات بن سلمان مع الغرب، إثر مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي.
وعبَّر الكاتب محمد حنيف عن الأمر على النحو التالي: «يلعب الأمير مع باكستان والهند حالياً؛ لأنَّ أولاد وبنات الغرب -الذين يرغب حقاً في اللعب معهم- يتجاهلونه الآن مُؤقتاً».
وحضر خان مؤتمر الاستثمار السعودي الذي أُقيم في أكتوبر/تشرين الأول عام 2018، وهو المؤتمر الذي انسحبت منه العديد من الدول إثر مقتل خاشقجي.
وخرج خان من المؤتمر وفي جيبه ستة مليارات دولار من تخفيفات الديون، وقرضٍ مُباشر بقيمة ثلاثة مليارات دولار، ومدفوعات نفطية مُؤجَّلة بقيمة ثلاثة مليارات دولار أيضاً.
وازداد تقارب العلاقة مع ولي العهد خلال زيارته لباكستان في فبراير/شباط عام 2019، حيث استقبلته باكستان استقبالاً ملكياً بحضور تشكيلٍ من الطائرات المُقاتلة التي استقبلت طائرته بمجرد دخولها المجال الجوي الباكستاني.
وحضر رئيس الوزراء ورئيس أركان الجيش لاستقبال الأمير على السجادة الحمراء، قبل أن يكسر خان البروتوكول الرسمي ويصطحب بن سلمان في السيارة التي قادها بنفسه إلى مقر إقامة رئيس الوزراء، حيث أقام ولي العهد.
ولم تُدَّخر النفقات خلال الزيارة التي استمرت ليومٍ واحد تقريباً -إذ جلب الأمير معه ثماني سيارات فارهة، ومُعدَّات الجمنازيوم، والأثاث. وعُلِّقت لافتاتٌ كبيرة ترحيباً بالأمير، حتى في المُدن التي لم يَزُرها، مثل لافتةٍ رُفِعَت في لاهور، تقول: «نُرحِّب بصاحب السمو الملكي في بيته الثاني».
وفي روالبندي وإسلام أباد، أعلنت الحكومة عُطلةً رسمية وشدَّدت الإجراءات الأمنية، إلى جانب إقامة قرابة الألف نقطة تفتيش شُرطية ونشر نُخبة قوات الكوماندوز.
ووقَّع محمد بن سلمان، الذي اصطحب معه 40 من كبار رجال الأعمال السعوديين خلال الزيارة، مُذكِّرات تفاهم بقيمة 20 مليار دولار في مجالات الطاقة وتكرير النفط وتطوير الثروة المعدنية.
ولا أحد يعلم الشروط الدقيقة لتلك الصفقات، ولكن الأموال السعودية لا تُقدَّم مجاناً. ومنح الرئيس الباكستاني نيشان باكستان لمحمد بن سلمان، وهو أرفع الأوسمة المدنية في البلاد.
ورَكِبَ بن سلمان عربةً تجرُّها الخيول في طريقه إلى الحدث الذي أُقيم داخل مقر إقامة الرئيس. وانخرط خان في تعبيرات إشادة شديدة التنميق بالأمير، لدرجة أنَّه قال إنَّ الأمير يستطيع أن يجمع أصواتاً أكثر من خان نفسه في الانتخابات الباكستانية: «أنت تتمتَّع بشعبيةٍ كبيرة. ولولا الأسباب الأمنية، كُنت سترى الآلاف والآلاف من الناس في الشوارع للترحيب بك».
ولم تَغِب إيران عن عقول السعوديين خلال الرحلة، إذ ألقى وزير الخارجية السعودي خطاباً مُطوَّلاً خلال مُؤتمرٍ صحفي أُذيع على الهواء مُباشرةً، ووصف فيه طهران بأنَّها الداعم الرئيسي للإرهاب في العالم. لكن قنوات التلفزيون الباكستانية شوَّشت على تصريحاته.
ودفعت عاصفة تغريدات ترامب -المُناهضة للمساعدات الأمريكية إلى باكستان- بخان إلى أحضان السعوديين على الأرجح، إلى جانب وعود خان الشعبوية بتقليل الاعتماد على الغرب. لكن قضية خاشقجي أدَّت دوراً مُهماً أيضاً، إذ كان خان مُستعداً للتغاضي عنها، مما أكسبه صداقة بن سلمان ودعمه المالي.
وفي الواقع، وصلت رغبة خان في استرضاء بن سلمان إلى درجة أنَّ وكالة التحقيقات الفيدرالية الباكستانية بدأت التحقيق في أمر الصُحفيين والنُشطاء الذين استبدلوا صورة وجه خاشقجي بُصورهم على الشبكات الاجتماعية احتجاجاً على زيارة الأمير.
ومع ذلك، ليس هناك ضمانة على استمرار هذا المُستوى من الصداقة، نظراً لاعتمادها الحالي تداخل هذه المُتغيِّرات المُتعدِّدة. وكسب خان بعض النقاط محلياً خلال زيارة الأمير، حين طلب الإفراج عن السُجناء الباكستانيين داخل السعودية. ووافق الأمير، لكن السعودية استمرت في ممارسة العقوبات الوحشية على الأجانب الشهر التالي، حين أعدمت اثنين من الباكستانيين بتُهمة تهريب المُخدرات.
نعم نجحت السعودية في تغيير التدين الباكستاني، ولكن الباكستانيين يستطيعون أن يقولوا «لا»
مما لا شكَّ فيه أنَّ الأموال السعودية تشتري لها النفوذ داخل باكستان، وخاصةً النفوذ الديني، إلى جانب النفوذ الثقافي. ويظهر تعريب الثقافة بجلاءٍ حتى على لوحات ترخيص السيارات في مُدن باكستان الكُبرى، إذ تظهر كلمة «باكستان» مكتوبةً باللغة العربية. ووصف محمد حنيف الأمر بأنَّه «زواجٌ سعيد بين الله وعجز الميزانية».
ونجحت السعودية في تغيير شخصية التديُّن داخل باكستان، إبان مساعيها لبسط نفوذها على العالم الإسلامي، ومهمتها لمُواجهة إيران. لكن النفوذ السعودي يظل مشروطاً؛ إذ إنَّ باكستان بارعةٌ في مُوازنة علاقاتها بين إيران والسعودية. ولا تزال باكستان قادرةً على «التملُّص بحرية» من مسألة الاضطرار لاختيار جانبٍ واحد في الخلاف الإيراني-السعودي، رغم أنَّ علاقتها مع السعودية أقوى فعلياً.