هكذا يخطط أردوغان وحلفاؤه لتفكيك المنظومة المالية المهيمنة على العالم
معتز علي محمد – مدونات الجزيرة
تتعالى الأصوات بإقامة نظام مالي عالمي جديد متعدد الإقطاب لا يعتمد على الدولار، خصوصا بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، والتي كان لها تأثير عنيف على الأسواق العالمية وأدت لتباطئ النمو العالمي لفترة كبيرة، مما أدى لحدوث أزمة في منطقة اليورو بعد أن عجزت بعض الدول عن الوفاء بدفع ديونها مثل اليونان، كما وصلت أبعاد تلك الأزمة إلى دول أخرى مثل إيطاليا وقبرص وأسبانيا وإيرلندا، فيما يشبه تأثير الدومينو، مما دفع دول اليورو الغنية للتدخل بحزمة مساعدات تجنبا لانتشار تلك الموجة في أنحاء أوروبا، بالتوازي مع دعوات عالمية متكررة لإنشاء نظام مالي أكثر قوة يعتمد على سلة من العملات بدلا عن الدولار.
إلا أن الطغمة الاقتصادية المسيطرة على صناعة القرار الأمريكي رفضت أي تجاوب مع تلك الأصوات طمعا في المزيد من السيطرة على الاقتصاد العالمي، وهو ما دعا روسيا والصين لمحاولة صناعة نظام عالمي جديد، وانضمت لتلك الدعوة دول مثل تركيا وإيران وفنزويلا، في محاولة للتحرر من قبضة النظام العالمي الذي تديره أمريكا، والتي تقوم بفرض عقوبات على أي نظام يخرج عن المدار المرسوم له. ومع نمو الصين المضطرد وزيادة اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، زادت الدعوات لإنشاء اتحاد اقتصادي أوراسيوي، حيث تحتوي تلك المنطقة على ثلثي سكان العالم، وتنتج أكثر من ستين بالمائة من إنتاج العالم، مما يجعل ذلك التحالف (حال قيامه) أقل تأثرا بالقيود الأمريكية.
أمريكا تنشئ النظام العالمي
ترجع بداية القصة عندما أنشأت أمريكا النظام العالمي القائم على الدولار في مؤتمر بريتن وودز عام 1944، ووافقت الدول المشاركة على تحويل الاحتياطي الخاص بها لدولار، مع تعهد أمريكي بإستبداله بالذهب حال طلبت أي دولة ذلك، لكن أمريكا إضطرت إلى طباعة المزيد من أوراق البنكنوت لتغطية نفقات حربها في فيتنام الذي بدأت في 1956 واستمرت قرابة عشرون عاما، مما دفع الرئيس الفرنسي ديجول عام 1967 لطلب استبدال الدولارات الموجودة لدى فرنسا بالذهب، وعمل على تشجيع عدد من الدول على ذلك، الأمر الذي دفع الرئيس نكسون عام 1971 لإلغاء ما تعهدت به أمريكا في إتفاقية بريتن وودز، وقام بفك إرتباط العملة الأمريكية بالذهب.
نظام البترودولار
عوضا عن ربط الدولار بالغطاء الذهبي، تم إنشاء نظام مالي جديد في بداية السبعينات يربط الدولار بالسلعة الاستراتيجية الأهم في العالم، الأمر الذي زاد من الطلب على الدولار بعد ارتفاع أسعار البترول عقب حرب أكتوبر عام 1973 من 3 إلى 12 دولار للبرميل، كما تم تدشين نظام سويفت المالي عام 1973 لتحويل الأموال حول العالم، والذي يخضع عمليا لسيطرة واشنطن عليه عبر نوافذ خلفية تقنية، فضلا عن هيمنة الدولار على التجارة العالمية، وبذلك أحكمت أمريكا قبضتها على النظام المالي الجديد، وأعلن عن نهاية العمل بنظام بريتن وودز في مؤتمر جاميكا 1976، بعد نزع الصفة النقدية عن الذهب.
انقلابات اقتصادية
قامت أمريكا في السبعينات والثمانينيات بدعم عدة انقلابات عسكرية في أمريكا الجنوبية وأوروبا ضد الأنظمة الإشتراكية في تشيلي والبرازيل والأرجنتين من أجل تحويلها لأنظمة رأسمالية تابعة لها، كما نجحت أمريكا في دعم رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر في عملية التحول الرأسمالي، فضلا عن نجاح الشركات الأمريكية في الانتشار في دول الشرق الأوسط وإفريقيا وشرق أسيا بعد ضغوط أمريكا على الحكومات لمنعها من حماية شركاتها المحلية، نهاية باستخدام أمريكا لأذرعها المالية ممثلا في صندوق النقد والبند الدولي، لإقراض الحكومات بشروط مذلة.
منظمة شنهغاي
كرد فعل على هيمنة أمريكا على المنظومة المالية العالمية، سعت كل من روسيا والصين إلى تأسيس تكتل اقتصادي موازي للتكل الغربي، فتم تدشين منظمة شنغهاي عام 1996، والتي ضمت دول أسيا الوسطي والهند وباكستان، كما تم قبول تركيا وإيران كمراقبين، وفي 2017 نجحت المنظمة في الاستحواز على خمس الاقتصاد العالمي بمقدار 15 ترليون دولار، الأمر الذي يعكس تنامي الدور الحيوي لذلك التحالف الاقتصادي على الصعيد العالمي، وهو ما يمهد لظهور ما يسمي بالاتحاد الاقتصادي الأوروأسيوي الذي تسعي كل من الصين وروسيا لتدشينه كوريث للإتحاد الإوروبي الذي يعاني أزمات اقتصادية عميقة.
نظام سويفت الروسي
بعد ضم روسيا للقرم عام 2014، هددت أمريكا بطرد روسيا من نظام التحويلات المالية العالمية (سويفت)، والذي يضم أكثر من 11 ألف بنك ومؤسسة مالية حول العالم، فقامت روسيا بالرد على ذلك التهديد عمليا عبر تطوير نظام مالي منافس للنظام الذي تهيمن على أمريكا، وشرعت روسيا بدعم أوروبي في تشين نظام تحويلات بنكية خاص بها والذي بدأ العمل به في 2017 من أجل إيجاد صيغة قانونية للتعامل المعالي بين أوروبا وروسيا بعيدا عن العقوبات الأمريكية، وفي نفس السياق قامت الصين بعمل نظام مشابه للسويفت ومهيأ لتنفيذ تحويلات باليوان، والذي بدأ العمل به في مارس الماضي.
البترويوان
أعلنت الصين عن نيتها طرح بورصة لشراء النفط باليوان المغطي بالذهب، كما تم الاتفاق مع روسيا على شراء النفط والغاز بالعملات المحلية وتقليص الاعتماد على الدولار، بينما أعلنت فنزويلا في 2017 عن بيعها النفط بسلة عملات بديلة عن الدولار، من أجل الالتفاف على العقوبات الأمريكية، وهو ما ردت عليه أمريكا عام 2019 بدعم محاولة انقلاب عسكري على نظام مادورو اليساري.
إجراءات تركيا الاستباقية
بعد فشل الانقلاب العسكري في تركيا عام 2016، سارع أردوغان لاتخاذ خطوات حمائية للاقتصاد التركي تحسبا لحدوث انقلاب اقتصادي، فزادت تركيا من اعتمادها على تخزين المزيد من الذهب كغطاء أمن لعملتها، حيث تخطى رصيدها من الذهب حاجز الـ 560 طن عام 2018 صعودا من 116 طن في 2011، بالتوازي مع التوصل لاتفاق مع إيران وروسيا والصين لاستخدام العملات المحلية في التجارة، وتقليل التعامل بالدولار. ومن جانب أخر فقد وقعت تركيا اتفاقات لتدشين خطي لنقل الغاز من وسط أسيا وروسيا لأوروبا عبر الأناضول، ضمن مخططات تركيا وروسيا للعب دور جيوسياسي في شرق أوروبا، لخلق توازن ضد السياسات الأمريكية في المنطقة. وفي إطار الجهود الرامية لنقل موازين القوي الاقتصادية من الغرب إلى الشرق، تم إطلاق مشروع طموح يهدف لوضع اسطنبول كمركز مالي عالمي، وهو ما تزامن مع افتتاح طريق الحرير الحديدي عام 2017 الذي يربط الصين بشرق تركيا عبر خطوط سكك حديد تمر بوسط أسيا عبورا للبحر الأسود وتركيا
أمريكا ومعركة النفس الأخير
منذ وصول ترامب للبيت الأبيض يناير 2017، حاول تغيير قواعد اللعبة عبر فرض عقوبات اقتصادية على الصين في محاولة لإجبارها على زيادة التبادل التجاري مع أمريكا وشراء الغاز الأمريكي بديلا عن شراء الغاز من روسيا، بالتوازي مع قيام الناتو بعدة مناورات ضخمة على حدود الصين وروسيا في محاولة لإرهابهم، فيما تم إعادة العقوبات الاقتصادية على إيران لمنعها من بيع نفطها للصين باليوان. وردت إيران على العقوبات الأمريكية الرامية لتصفير صادرتها النفطية لأوروبا والصين، عبر عمليات نوعية في خليج عمان وفي العمق السعودي عبر ميليشيات الحوثي المحسوبة عليها، الأمر الذي يعكس التحدي الإيراني لتلك العقوبات. كما أن الإعلان الأوروبي الأخير بجاهزية الآلية الخاصة بالتبادل التجاري مع إيران وتفادي العقوبات الأميركية (إنستيكس)، يعكس مدى العزلة الدولية التي تعيشها أمريكا تلك الأيام بسبب العنجهية الأمريكية في التعامل مع الأزمات الدولية فضلا عن إختلاقها.
آي دينار
وفي إطار الجهود الدولية لصناعة عملات مغطاه بأصول ثابتة ومعادن نفيسة، أطلقت قطر وماليزيا أول منصة إلكترونية إسلامية لتبادل العملة الرقمية آي دينار، والتي تمت تغطيتها بالذهب، الأمر الذي يجعلها تتصدر معايير الثقة لدى المتعاملين، ويفتح المجال لمزيد من الحلول والأدوات المالية في الساحة الدولية.
مصير صدام والقذافي!
تاريخيا دعا العديد من الزعماء اليساريين والقوميين مثل بودمين ومصدق وشافيز لتبادل النفط بسلة من العملات بديلا عن الدولار، وهو ما قام به صدام عندما باع بترول العراق باليورو قبل أن تطيح به أمريكا عقب الإدعاء بامتلاكه لأسلحة دمار شامل، وهو ما تكرر مع القذافي عام 2011، فوفقا لمجلة فورن بوليسي الأمريكية كان القذافي قد بدأ الإعداد للدينار الإفريقي الذهبي كعملة بديلة للفرنك الفرنسي الذي تستخدمه مستعمرات فرنسا السابقة في وسط وغرب إفريقيا، وتم جمع هذا الذهب قبل انطلاق الثورة الليبية بشهور، مما دعا فرنسا وأمريكا للتدخل عسكريا والإطاحة به سريعا. ترى هل تنجح هذه المرة محاولات التحالف بين كل من روسيا والصين وتركيا وإيران وقطر وماليزيا وفنزويلا في صناعة نظام مالي عالمي جديد، أم تسبقهم العصا الأمريكية بالحصار والعقوبات والتهديد بالحرب