عثمان الأول.. المؤسس الغازي
صادفت ولادة عثمان بن أرطغرل في عام 656هـ/1258م سقوط عاصمة الخلافة الإسلامية “العباسية” بغداد بيد هولاكو وجيشه المغولي. فمنذ البداية، ولد عثمان خان وكَبُر وسط أجواء الاضطراب والضعف الذي أصاب الحكم الإسلامي، ليس هذا فحسب، بل تفتحت عيناه على وجود الإمارات الصليبية على أطراف سلطنته الناشئة.
إذًا، كان الخطب عظيمًا والحدث جليلًا، والأمة ضعفت ووهنت بسبب ذنوبها ومعاصيها ولذلك سلط عليها المغول، فهتكوا الأعراض، وسفكوا الدماء، وقتلوا الأنفس، ونهبوا الأموال، وخربوا الديار، في تلك الظروف الصعبة والوهن المستشري في مفاصل الأمة ولد عثمان مؤسس الدولة العثمانية، وهنا معنى لطيف ألا وهو بداية الأمة في التمكين هي أقصى نقطة من الضعف والانحطاط تلك هي بداية الصعود نحو العزة والنصر والتمكين، إنها حكمة الله وإرادته ومشيئته النافذة.
قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} (القصص، آية: 3-6). ولا شك أن الله تعالى قادر على أن يمكن لعباده المستضعفين في عشية أو ضحاها، بل في طرفة عين قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (النحل: 40).
وعندما نتأمل في سيرة عثمان الأول تبرز لنا بعض الصفات المتأصلة في شخصيته كقائد عسكري، ورجل سياسي، ومن أهم هذه الصفات:
الشجاعة: عندما تنادى أمراء النصارى في بورصة ومادانوس وأدره نوس وكته وكستله في عام 700هـ/1301م لتشكيل حلف صليبي لمحاربة عثمان بن أرطغرل وتحالفوا للقضاء على الدولة الناشئة تقدم عثمان بجنوده وخاض الحروب بنفسه وشتت الجيوش الصليبية وظهرت منه بسالة وشجاعة أصبحت مضرب المثل عند العثمانيين.
الحكمة: بعد ما تولى رئاسة قومه رأى من الحكمة أن يقف مع السلطان علاء الدين ضد النصارى، وساعده في افتتاح جملة من مدن منيعة، ولذلك نال رتبة الإمارة من السلطان السلجوقي علاء الدين صاحب دولة سلاجقة الروم.
الاخلاص: عندما لمس سكان الأراضي القريبة من إمارة عثمان إخلاصه للدين تحركوا لمساندته والوقوف معه لتوطيد دعائم دولة إسلامية تقف سداً منيعاً أمام الدولة المعادية للإسلام والمسلمين.
الصبر: وظهرت هذه الصفة في شخصيته عندما شرع في فتح الحصون والبلدان، وقد توج فتوحاته هذه بفتح مدينة بروسة في عام 717هـ/1317م، وذلك بعد حصار شديد دام عدة سنوات، حيث حدثت بينه وبين قائد حاميتها اقرينوس صراع شديد حتى استسلم وسلم المدينة لعثمان. قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (سورة آل عمران:200).
الجاذبية الايمانية: وتظهر هذه الصفة عندما احتك به اقرينوس قائد بروسه واعتنق الإسلام أعطاه السلطان عثمان لقب (بك) وأصبح من قادة الدولة العثمانية البارزين فيما بعد، بل إن كثيراً من الجماعات الاسلامية انخرطت تحت لواء الدولة العثمانية كجماعة (غزياروم) أي غزاة الروم، وهي جماعة إسلامية كانت ترابط على حدود الروم وتصد هجماتهم عن المسلمين منذ العصر العباسي، وجماعة (الإخيان) (أي الإخوان) وهم جماعة من أهل الخير يعينون المسلمين ويستضيفونهم ويصاحبون جيوشهم لخدمة الغزاة وكان معظم أعضاء هذه الجماعة من كبار التجار الذين سخروا أموالهم للخدمات الإسلامية مثل:
إقامة المساجد والتكايا و”الخانات” الفنادق.
العدل: تروي معظم المراجع التركية التي أرّخت للعثمانيين أن أرطغرل عهد لابنه عثمان مؤسس الدولة العثمانية بولاية القضاء في مدينة قره جه حصار بعد الاستيلاء عليها من البيزنطيين في عام 684هـ/1285م وأن عثمان حكم لبيزنطي نصراني ضد مسلم تركي، فاستغرب البيزنطي وسأل عثمان: كيف تحكم لصالحي وأنا على غير دينك، فأجابه عثمان: بل كيف لا أحكم لصالحك، والله الذي نعبده، يقول لنا : { ِإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } (سورة النساء، 58) وكان هذا العدل الكريم سبباً في اهتداء الرجل وقومه إلى الإسلام.
الوفاء: كان شديد الاهتمام بالوفاء بالعهود، فعندما اشترط أمير قلعة اولوباد البيزنطية حين استسلم للجيش العثماني، أن لايمر من فوق الجسر أي عثماني مسلم إلى داخل القلعة التزم بذلك وكذلك من جاء بعده. قال تعالى {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} (سورة الإسراء)
التجرد لله في فتوحاته: فلم تكن أعماله وفتوحاته من أجل مصالح اقتصادية أو عسكرية أو غير ذلك، بل كان فرصة لتبليغ دعوة الله ونشر دينه ولذلك وصفه المؤرخ أحمد رفيق في موسوعته (التاريخ العام الكبير) بأنه (كان عثمان متديناً للغاية، وكان يعلم أن نشر الاسلام وتعميمه واجب مقدس وكان مالكاً لفكر سياسي واسع متين، ولم يؤسس عثمان دولته حباً في السلطة وإنما حباً في نشر الاسلام).
ويقول قدير مصر أوغلي: “لقد كان عثمان بن أرطغرل يؤمن إيماناً عميقاً بأن وظيفته الوحيدة في الحياة هي الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وقد كان مندفعاً بكل حواسه وقواه نحو تحقيق هذا الهدف”.
هذه بعض صفات عثمان الأول والتي كانت ثمرات طبيعية لإيمانه بالله تعالى والاستعداد لليوم الآخر، وحبه لأهل الإيمان وبغضه لأهل الكفر والعصيان وحبه العميق للجهاد في سبيل الله والدعوة.
لقد كانت شخصية عثمان متزنة وخلاقة ومنهج تربوي، بسبب إيمانه العظيم بالله تعالى واليوم الآخر، ولذلك لم تطغ قوته على عدالته، ولا سلطانه على رحمته، ولا غناه على تواضعه، وأصبح مستحقاً لتأييد الله وعونه، ولذلك أكرمه الله تعالى بالأخذ بأسباب التمكين والغلبة وهو تفضل من الله تعالى على عبده عثمان، فجعل له مكنة وقدرة على التصرف في آسيا الصغرى من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار، لقد كانت رعاية الله له عظيمة ولذلك فتح له باب التوفيق وحقق ماتطلع إليه من أهداف وغاية سامية لقد كانت أعماله عظيمة بسبب حبه للدعوة الى الله، فقد جمع بين الفتوحات العظيمة بحد السيف، وفتوحات القلوب بالإيمان والإحسان، فكان إذا ظفر بقوم دعاهم إلى الحق والايمان بالله تعالى وكان حريصاً على الأعمال الإصلاحية في كافة الأقاليم والبلدان التي فتحها، فسعى في بسط سلطان الحق والعدالة، وكان صاحب ولاء ومحبة لأهل الإيمان، مثلما كان معادياً لأهل الكفران.
د.علي الصلابي – ترك برس