روسيا تحقق ما لم تكن تحلم به من وراء شراء تركيا «إس 400».. الأمر أكبر من المال بكثير
ا حديث في أروقة السياسة العالمية إلا عن اقتناء تركيا منظومة إس 400 الروسية في تحد واضح من أنقرة لتحذيرات واشنطن بعدم الاقتراب من روسيا عسكرياً، لكن الشق الذي لم يتحدث عنه أحد هو: ماذا تريد روسيا من هذه الصفقة؟
تقرير لموقع Al-Monitor الأمريكي، رصد الأهداف التي تحاول أن تحققها روسيا من وراء هذه الصفقة والتي يتجاوز بعضها إلى حد كبير الربح المالي، بل الأمر له علاقة بعودة روسيا من بعيد كقوة منافسة لواشنطن.
قبل يومين أرسلت روسيا إلى تركيا المجموعة السابعة من مكونات منظومة صواريخ إس 400. وبدأت عملية التسليم في الـ12 من يوليو/تموز الجاري، بوصول ثلاث طائرات شحن تحمل عدداً من الجرارات وسيارة تحميل من منظومة إس 400 إلى قاعدة مرتد الجوية. ومن المقرر اكتمال عملية التسليم بحلول أبريل/نيسان عام 2020، وتتوقع تركيا إرسال المزيد من المتخصصين إلى روسيا من أجل التدرُّب على تشغيل منظومة الصواريخ الدفاعية.
ماذا تريد تركيا؟
وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، السبت الماضي 13 يوليو/تموز: «عددهم الحالي ليس كافياً. يوجد الآن 100 متخصص، لكنَّ عددهم قد يزيد إلى عشرة أضعاف». وأشاد أردوغان بصفقة إس 400 باعتبارها «أهم اتفاقية في تاريخ تركيا الحديث. تركيا لا تستعد للحرب. إنَّ الهدف من منظومات الدفاع الصاروخي هذه هو ضمان السلام والأمن في بلادنا. ونحن نتخذ خطواتٍ أخرى لتحسين قدراتنا الدفاعية».
بدورها، قالت موسكو إنَّ الاتفاق مهم لأنَّه يُمهِّد الطريق نحو مزيدٍ من التعاون العسكري التقني القوي مع بلدان الشرق الأوسط الأخرى. إذ وصف رئيس لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان الروسي ليونيد سلوتسكي عملية تسليم صواريخ إس-400 بأنَّها «خطوة أولى». ويخضع سلوتسكي للعقوبات الأوروبية والأمريكية منذ عام 2014 على خلفية سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم والحرب في شرق أوكرانيا.
روسيا تستغل مواردها بشكل أمثل
وقال سلوتسكي: «تركيا هي أول من سيُوقِّع. ومن المؤكَّد أنَّ إس 400 ومنظومات أسلحة روسيا الأكثر تطوراً ستظهر في المنطقة. وسنتعاون عن كثب؛ إذ إنَّ أحجام هذا التعاون ستكون ضخمة. أنا واثق من أنَّنا ينبغي أن نزيد هذا التعاون بكل طريقةٍ ممكنة». وتُعَد مجموعة أدوات السياسة الخارجية الروسية أكثر تواضعاً عند مُقارنتها بمجموعة أدوات الولايات المتحدة، لكنَّها مع ذلك أظهرت في عددٍ من المناسبات أنَّ القدرة على استغلال الموارد في الشرق الأوسط ستكون أهم من حجم تلك الموارد.
واكتشفت روسيا منذ زمنٍ بعيد أنَّ القبضة الأمريكية على المنطقة تتوقف بدرجة كبيرة على المكون العسكري. وبما أنَّ روسيا غير قادرة على مجاراة الولايات المتحدة في الحضور المادي أو المشتريات العسكرية –وبصراحة لا ترى حاجةً لسلوك هذا المسار-، فقد بدأت في جسر الفجوات من خلال بيع الأسلحة وتكوين شراكات عسكرية تقنية مرتبطة بها. وبالنسبة لبعض دول المنطقة مثل مصر والعراق، وفَّرت المقترحات الروسية حلاً لتقليص اعتمادهم السياسي العسكري على الولايات المتحدة. وبالنسبة لآخرين –مثل السعوديين- فإنَّ التعاملات العسكرية مع روسيا تُعَد ورقة مساومة في مباحثاتهم مع الأمريكيين من أجل الحصول على صفقاتٍ أفضل لأنفسهم. وبالنسبة للبقية الذين يتعاملون مع موسكو وواشنطن، فإنَّ الأمر مزيجٌ من كلا مجموعتي الحوافز، بحسب الموقع الأمريكي.
روسيا قوية والغرب متفكك!
وكما هو الحال مع «التدخُّل الروسي» في الانتخابات الأمريكية، باتت «إس-400» كلمةً رنَّانة ترتبط بقوة روسيا المُتصوَّرة وتكشف الارتباك الغربي. إذ تُفهَم مسألة التدخُّل باعتبارها محاولةً من موسكو لتقسيم المجتمعات (الغربية غالباً) من أجل إيصال القوى الشعبوية إلى السلطة. وتُحقِّق إس 400، ومقترحات روسيا العسكرية التقنية الأخرى، غاية «فرِّق تسُد». إذ تفوز موسكو بشركائها من خلال إمدادهم ببديلٍ سياسي أو عسكري أو تكنولوجي لما تُقدِّمه الولايات المتحدة.
وربما لا تكون المنتجات الروسية مُتقدِّمةً تكنولوجياً بقدر المنتجات الأمريكية، لكن العديد من نخب العالم اليوم تمنح الأولوية للاستقلال الاستراتيجي على التكنولوجيا –من وجهة نظر موسكو على الأقل- خاصةً حين يكون هناك احتمالٌ (تُقدِّمه موسكو كذلك) بأن تصبح تلك الدول قادرةً على إنتاج تكنولوجيتها الخاصة على المدى البعيد.
ويُوفِّر الاتفاق الروسي-التركي بشأن صواريخ إس 400 كل تلك الإمكانات لموسكو وأنقرة. ويقول بافل لوزين، وهو محلل في الشؤون الدفاعية والسياسة الخارجية الروسية، إنَّه ينظر إلى صواريخ إس 400 باعتبارها باتت أداةً من أدوات السياسة الخارجية الروسية.
البحث عن دور القوة البديلة
وقال لوزين لموقع Al-Monitor الأمريكي: «تحاول روسيا لعب دور القوة البديلة في العلاقات الدولية، وتسمح الإمدادات من صواريخ أرض-جو بعيدة المدى لموسكو بتأسيس و/أو الحفاظ على التعاون طويل الأجل مع الزبائن مثل تركيا والصين والهند. وبالنسبة للبلدان الأخرى مثل قطر وفيتنام ومصر، فإنَّ احتمالية شراء صواريخ إس 400 قد تُوفِّر خياراتٍ إضافية و(تخلق) مجالاً أكبر في السياسات الخارجية لتلك الدول. لذا تحاول موسكو مقايضة تلك الخيارات معهم. لكنَّ احتمالات عقد صفقات جديدة تعتمد أيضاً على رد فعل الولايات المتحدة تجاه الصفقة مع تركيا. فإذا فرض الأمريكيون ما يكفي من الضغط على تركيا، قد يصبح تصدير إس 400 مضموناً بدرجة أقل».
وكان الجانب العسكري من الصفقة موضع جدلٍ منذ توقيع الصفقة. وهناك مبعثا قلقٍ شائعان بشأن الصفقة يجري تداولهما داخل روسيا، وفي مُختلف أنحاء الشرق الأوسط. إذ يُشير المبعث الأول إلى أنَّ الأتراك ربما يستخدمون المنظومة ضد الطائرات الروسية بمجرد انتهاء علاقات الود الوثيقة بين بوتين وأردوغان، وتجاوز روسيا لخطوط أنقرة الحمراء في المنطقة.
ويشير الثاني إلى أنَّ تركيا قد تنقل تكنولوجيا إس 400 إلى الأمريكيين في صفقةٍ منفصلة، وتقول تلك الرواية إنَّ من شأن صفقةٍ من هذا النوع أن تساعد الولايات المتحدة على تعديل طائراتها من أجل التمتُّع بقدرات اشتباك أكثر فاعلية مع منظومة إس 400 في حال نشوب أي صراع عسكري مع روسيا، بحسب الموقع الأمريكي.
ويرفض أندريه فرولوف، رئيس تحرير مجلة Eksport Vooruzheniy (مجلة تصدير الأسلحة)، هذين المزعمين. إذ قال لموقع Al-Monitor: «المنظومات التي قدَّمتها روسيا لتركيا هي نسخٌ مُعدَّة للتصدير من إس-400، وهي تختلف بصورةٍ كبيرة عما تستخدمه روسيا نفسها. إلى جانب ذلك، فإنَّ إس-400 هي منظومةٌ أقدم، وتعمل روسيا الآن على منظومةٍ أكثر تطوُّراً». وعند سؤاله عن وجود خلافات داخل الجيش الروسي وكبار صُنَّاع السياسة بشأن بيع المنظومة لتركيا، اعترف فرولوف بأنَّ «أي منظومة بيروقراطية كبيرة بها بعض الخلافات الداخلية، وربما يكون البعض قد عارض الصفقة، لكنَّ رأيهم في النهاية لا يُمثِّل موقف وزارة الدفاع. وفي حال الموافقة على بيع الأسلحة لدولة عضو بحلف الناتو وترخيص الإجراءات؛ فهذا يعني أنَّ الوكالات العسكرية الروسية المعنية قدَّرت المخاطر المرتبطة بذلك».