حركة التغريب والتحول الجديد في عهد السُّلطان عبد المجيد
د. علي الصلابي – ترك برس
كان السُّلطان عبد المجيد الأوَّل (1255 – 1277 هـ/ 1839 – 1860 م) ضعيف البنية، شديد الذَّكاء، واقعيَّاً، ورحيماً، وهو من أجلِّ سلاطين آل عثمان قدراً، أحبَّ الإِصلاح، وأدخل التَّنظيمات الحديثة، ورغب في تطبيقها في الحال. كما أدخل إِصلاحاتٍ جمَّةً في الجيوش العثمانيَّة. وترقَّت في أيَّامه العلوم والمعارف، واتَّسعت دائرة التِّجارة، وشُيِّدت الكثير من المباني الفاخرة، ومُدَّت في عهده أسلاك الهاتف، وقضبان السِّكك الحديديَّة.
تولَّى الحكم بعد وفاة والده السُّلطان محمود الثَّاني سنة 1839م، وكان في السَّادسة عشرة من عمره، فكان صغر سنِّه هذا فرصةً لبعض الوزراء التَّغريبيِّين لإِكمال ما بدأه والده الرَّاحل من إِصلاحات على الطَّريقة الأوربيَّة، والتَّمادي في استحداث الوسائل الغربيَّة، ومن هؤلاء الوزراء الَّذين ظهروا في ثياب المصلحين، ومسوح الصَّادقين (مصطفى رشيد باشا) الَّذي كان سفيراً للدَّولة في (لندن) و (باريس)، ووصل إِلى منصب وزير الخارجيَّة في أواخر عهد السُّلطان (محمود الثَّاني)، وكانت باكورة إِصلاحاته استصدار مرسومٍ من السُّلطان عرف (بخط شريف كلخانة) أي: المرسوم المتوج بخطِّ السُّلطان الَّذي صدر عن سراي الزَّهر عام 1839م وجاء فيه: (… لا يخفى على عموم النَّاس أنَّ دولتنا العليَّة من مبدأ ظهورها وهي جاريةٌ على رعاية الأحكام القرآنيَّة الجليلة، والقوانين الشَّرعيَّة المنيفة بتمامها، ولذا كانت قوَّة سلطتنا السَّنيَّة، ورفاهيَّة، وعماريَّة أهاليها وصلت حدَّ الغاية، وقد انعكس الأمر منذ مئةٍ وخمسين سنةً بسبب عدم الانقياد والامتثال للشَّرع الشَّريف، ولا للقوانين المنيفة بناءً على طروء الكوارث المتعاقبة، والأسباب المتنوِّعة فتبدَّلت قوَّتها بالضَّعف، وثروتها بالفقر…).
ثمَّ جاءت بيانات يمكن تلخيص بعضها فيما يلي:
1 ـ صيانة حياة، وشرف، وممتلكات الرَّعايا بصورةٍ كلِّيَّة بغضِّ النَّظر عن المعتقدات الدِّينيَّة.
2 ـ ضمان طريقةٍ صحيحةٍ لتوزيع، وجباية الضَّرائب.
3 ـ توخِّي العدل، والإِنصاف في فرض الجنديَّة، وتحديد أمدها.
4 ـ المساواة في الحقوق والواجبات بين المسلم وغير المسلم.
وبدأ عهدٌ جديدٌ يسمَّى عهد التَّنظيمات الخيريَّة العثمانيَّة الَّتي كان من بينها احترام الحرِّيَّات العامَّة، والممتلكات، والأشخاص بصرف النَّظر عن معتقداتهم الدِّينيَّة، ونصَّ فيه على مساواة جميع الأديان أمام القانون.
وفي جزيرة متلين اجتمع نفرٌ من رجال الدِّين اليونانيِّين، والأرمن، واليهود، وهناك خطبهم «رشيد باشا» ـ وهو من المنسوبين إِلى الإصلاح ـ باسم السُّلطان، فقال: (أيُّها المسلمون، والنَّصارى، واليهود! إِنَّكم رعيَّة إمبراطورٍ واحدٍ، وأبناء أبٍ واحدٍ، إِنَّ السُّلطان يسوِّي بينكم جميعاً).
(ولم يلقَ الخطُّ الشَّريف، أو الدُّستور الَّذي سانده «مصطفى رشيد» وقلَّةٌ من المحيطين به ترحيباً، أو تأييداً من الرَّأي العام العثماني المسلم؛ فأعلن العلماء استنكارهم؛ وتكفيرهم لـ «رشيد باشا»، واعتبروا الخطَّ الشَّريف منافياً للقرآن الكريم في مجمله، وبخاصَّةٍ في مساواته المسيحيِّين بالمسلمين، ورأوا: أنَّ ذلك ـ وبغضِّ النَّظر عن النَّواحي الدِّينيَّة ـ سيؤدِّي إِلى إِثارة القلاقل بين رعايا السُّلطان.
وكان الهدف بالفعل هو ما خطَّطت له الحركة الماسونيَّة، وهو إِثارة الشُّعور القومي لدى الشُّعوب المسيحيَّة ضدَّ الدَّولة). وبهذا المرسوم طُعِنت عقيدة الولاء، والبراء في الصَّميم، ونحِّيت جملةٌ هامَّةٌ من أحكام الشَّريعة الإِسلاميَّة فيما يتعلَّق بأهل الذِّمَّة، وعلاقات المسلمين مع غيرهم.
وقد أنشأ رشيد باشا مجلساً للنُّوَّاب، ووضع للدَّولة قانوناً للعقوبات وفق الشَّرائع الحديثة، واستقدم رجلاً فرنسيَّاً؛ ليضع قانوناً حديثاً للدَّولة، واشتدَّ في تطبيق قوانينه شدَّةً حازمةً ضمنت احترام النَّاس لها، وأعقب ذلك بإِنشاء بنكٍ جديدٍ للدَّولة، وأصدر أوراقاً ماليَّةً، ثمَّ صدر مرسومٌ اخر عام 1856م أكَّد فيه السُّلطان عبد المجيد الأوَّل المبادئ الَّتي سبق له أن أعلنها على لسان رشيد باشا، وزاد فيه عدَّة امتيازاتٍ، وحصاناتٍ لرعايا الدَّولة غير المسلمين، وعرف في التَّاريخ العثماني بالخطِّ الهمايوني الَّذي كان أكثر جرأةً من الأوَّل، وأكثر اندفاعاً نحو الاقتباس من الغرب، وقد تضمَّن الخط الهمايوني ما يلي:
1- إِلغاء نظام الالتزام، والقضاء على الرَّشوة والفساد.
2- المساواة في التَّجنيد بين المسلمين وغير المسلمين.
3- معاملة جميع رعايا الدَّولة معاملةً متساويةً مهما كانت أديانهم، ومذاهبهم.
4- المحافظة على الحقوق والامتيازات الَّتي تمتَّع بها رؤساء الملل غير الإِسلاميَّة.
5- القضاء على حواجز نظام الملل، ليتمتَّع كلَّ مواطني الإِمبراطوريَّة بمواطنةٍ عثمانيَّةٍ متساويةٍ.
6- أن تصبح المسائل المدنيَّة الخاصَّة بالرَّعايا المسيحيِّين من اختصاص مجلسٍ مختلطٍ من الأهالي، ورجال الدِّين المسيحيِّين، يقوم الشَّعب بانتخابه بنفسه.
7- فتح معاهد التَّعليم أمام المسيحيِّين، لتفتح أمامهم وظائف الدَّولة.
8- السَّماح للأجانب بامتلاك الأراضي في الدَّولة، كما وعد السُّلطان بالاستعانة برأس المال، والخبرات الأوربيَّة بهدف تطوير اقتصاد الدَّولة.
ويعتبر السُّلطان عبد المجيد أوَّل سلطانٍ عثمانيٍّ يضفي على حركة تغريب الدَّولة العثمانيَّة صفة الرَّسميَّة؛ إِذ إنَّه أمر بتبنِّي الدَّولة لهذه الحركة، وأمر بإِصدار فرمانَيْ التَّنظيمات، عامي 1854م، 1856م، وبهما بدأ في الدَّولة العثمانيَّة ما سمِّي بعهد التَّنظيمات، وهو اصطلاح يعني تنظيم شؤون الدَّولة وفق المنهج الغربي، وبهذين الفرمانين تمَّ استبعاد العمل بالشَّريعة الإِسلاميَّة، وبدأت الدَّولة في التَّقنين، وإِقامة المؤسَّسات.
وحينما رأى المسلمون أنَّ الدَّولة تساوي بهم النَّصارى، واليهود، وتستبدل بالشَّريعة الحنيفية قوانين النَّصارى، وتخلع الأزياء القديمة الشَّريفة لتتَّخذ زيَّ النَّصارى، وأحسُّوا كذلك: أنَّ حكومة رشيد لا تكاد تأتي أمراً إِلا راعت فيه خاطر النَّصارى، وحرصت ألا تمسَّهم بأذى، أو تنالهم بضيم؛ نفروا من ذلك نفوراً عظيماً، ولم يجد السُّلطان ورجال دولته من بدٍّ في إِسقاطه، وعزله أمام مظاهر السُّخط الشَّعبي، وخوفهم من وثوب المسلمين، وثورتهم.
غير أنَّ عزل رشيد باشا لم يؤدِّ إِلى وقف حركة التَّغريب من استقدام المزيد من الأنظمة والقوانين من الغرب بعد أن مُهِّد لها الطَّريق، وفُتِحت لها الأبواب، ومع أنَّ هذه المعارضة لرشيد باشا، ودستوره قد نجحت في إِقصائه سنة 1841م، إِلا أنَّه عاد بعد أربع سنوات في عام 1845م تسانده مجموعةٌ من أعضاء المحافل الماسونيَّة الَّذين ركزوا في طريق التَّحوُّل العلماني… ، وعاد بعد ذلك ليتولَّى الصَّدارة العظمى سنة 1846 م، وعزل منها سنة 1858م.
وازدادت الأجواء سوءاً، وانحطاطاً، ممَّا جعل رجال الدَّولة يفكِّرون حقيقةً في التَّغيير والإِصلاح، فلا يجدون أمامهم غير الطَّريقة الأوربيَّة في الإِصلاح، والوجهة التَّغريبيَّة في التَّغيير الَّتي بُدئ في اتِّخاذها، خصوصاً إِذا علمنا: أنَّ كثيراً من رجال الدَّولة هؤلاء ممَّن بعثتهم الدَّولة للعمل في التَّمثيل السِّياسي الخارجي، أو للدِّراسة العسكريَّة في الخارج، بعد أن خلت السَّاحة من ظهور مصلحٍ إِسلاميٍّ يعيد الأمور إِلى نصابها، ويقطع الطَّريق على أنصار الغزو الفكري بتبنِّي إِصلاحٍ جادٍّ يعتمد على المنهج الإِسلامي.
وقد انتشرت أفكار الغزو الفكري بين الجمهور الأعظم من ساسة التُّرك، وولاتهم، وركبوا متن التَّفرنج والتَّحلُّل من الدِّين، حتَّى إِنَّ العلامة العراقي الآلوسي لمَّا زار والي كركوك علي باشا عام 1267هـ أثنى عليه، وامتدحه بحبِّ العلماء، وإِكرامهم، وبالأخلاق الفاضلة (والظَّاهر: أنَّه غير منحلِّ العقيدة، ولا منتحل شيئاً من الآراء الإِفرنجيَّة الجديدة، حيث إِنَّه لم يسمع منه جليسٌ حديث لوندرة، وباريس! ويكفي أهل البلد اليوم رحمةً: أنَّ واليها سالمٌ من تلك الوصمة، وقلَّما تُنال هذه الرَّحمة في هذا الزَّمن الذَّميم!).
وقد استمرَّ التَّيَّار التَّغريبي في محاولة إِحكام السَّيطرة على جميع المجالات، والأجهزة في الدَّولة العثمانيَّة. وعلى كلِّ حالٍ: لقد كانت المعالم الرَّئيسة لحركة الإِصلاح، والتَّجديد العثمانيَّة تدور حول نقاطٍ ثلاثةٍ مهمَّةٍ:
1 ـ الاقتباس من الغرب فيما يتعلَّق بتنظيم الجيش، وتسليحه في نظم الحكم والإِدارة.
2 ـ الاتِّجاه بالمجتمع العثماني نحو التَّشكيل العلماني.
3 ـ الاتِّجاه نحو مركزيَّة السُّلطة في إِستانبول، والولايات.
كانت سنة صدور خطِّ كلخانة حدثاً في الأوساط الأوربيَّة يسجِّله أحد المنصِّرين الفرنسيِّين بقوله: (كان عام 1839م عاماً عظيماً بالنِّسبة للتَّوغُّل الفرنسي في تركيَّا.. لقد كان بداية التَّنظيمات، والسَّنة الأولى في الإِصلاح… ونحن رجال الدِّين سنبدأ بالاستفادة من هذه اللِّيبراليَّة الخجولة، ونبدأ بإِرساليَّة تبشيريَّة للتَّعليم الكاثوليكي). وقال السَّيِّد إِيتيان الَّذي ترأَّس هذه الإِرساليَّة: (هذه أوَّل إِمكانيَّةٍ لتعزيز انتصار الإِيمان الَّذي سنعلِّمه، ذلك لأنَّ القرآن يحرِّم حتَّى ذلك الوقت التَّعليم. لقد سافرت أوَّل إِرساليَّة مكوَّنة من سبعة رجال دينٍ في 21/11/1839م إِلى إِستانبول… الأخوات يفتحن داراً لليتامى وفصولاً للتَّدريس في نهاية 1840م يصل عدد التَّلاميذ إِلى 230، وعام 1842م يصل العدد إِلى 500).
وهكذا لم تضيِّع أوربَّة المسيحيَّة، وكنيستها وقتاً طويلاً للاستفادة من ظروف التَّحديث، والتَّنظيمات؛ فبعد سبعة عشر يوماً من صدور الخطِّ، كانت الإِرساليَّات التَّبشيريَّة الأولى تغادر مرسيلية باتِّجاه العاصمة العثمانيَّة، وهي تحمل أفكارها العدائيَّة للمسلمين، ولقرآنهم الكريم.