لا مجال لبناء عالم جديد من دون فهم الدولة العثمانية
تاريخ الإنسانية كتب هنا حتى ثلاثة قرون مضت. في منطقة الحضارة المركزية التي نعيش عليها.
التاريخ في القرون الثلاثة الماضية لم يكتب هنا، بل كتبه “من” هنا. فلو انسحب الأمركيون والأروربيون من هنا، فهل سيكون بمقدورهم صناعة التاريخ؟؟
الفكر التركي: مجموعة العقول المضطربة
ان المسألة المؤلمة هي أن اليوم ليس ملك هذا المنطقة، ولكن البارحة كانت ملكها. البارحة كانت ملكاً للمنطقة، لأننا كنا فيها.
نحن بحاجة لأن نتواجد في منطقتنا أولاً لكي تمتلك الغد. يجب أن نقدم للإنسانية الحضارة الحقيقة التي تتعطش لها.
يجب علينا أن نعرف أنفسنا أولا، أن نملك الفكر التي يستطيع أن يقدم للعالم حضارة تفتح ذراعيها للجميع على اختلاف أديانهم ومنابتهم وأعراقهم، وتقدم لهم الحياة.
إلا أن الفكر في تركيا لم يصل إلى مرحلة الفكر الحضاري القائم على أسس متينة. فالمشهد في تركيا مليء بمفكرين غريبي التصورات الذين يتحدثون عن الحضارة وكأنهم يتحدثون عن الدين، أو يحلون الحضارة محل الدين.
الفكر التركي المسكين هو مجموعة من العقول المضطربة والمدمرة بخرافات العصر.
إن المتحدثين عن الحضارة، وخاصة عن الحضارة الإسلامية لا يملكون فكراً حضارياً.
إن خرافات العصر لا تزال تقبع في عقول المتحدثين عن الحضارة، تلك الأقفاص التي تسحب الإنسان وتحبسه داخلها من دعاوى التقدم والنهضة والرفاه وغيرها. أو كما سماها “ويبر” في تعريفه للمدنية بـ “الأقفاص الحديدية”. إنها سجون العقل التي تعرض الإنسان لمعاناة ضياع الحرية وأزمة المعنى.
لذلك فلا بد في البداية من تشكيل فكر المدنية المنظم، ومن ثم السير في طريقه.
إن عدم معرفة الطريق والبدء بالسير على غير هدى، يعني الخسران في النهاية. ذاك هو الانهيار وخيبة الأمل من تحول أحلامنا إلى كوابيس.
مكة + المدينة = الحضارة
إن الدين هو أساس الفكر الحضاري. الدين هو المنبع، والحضارة هي النهر المتدفع ليروي الجميع ويذهب عطشهم.
الدين هو منبع الحضارة، منبع إلهي.
الحضارة هي النهر الذي يهب الحياة، ويحيي الدين، ويفعله في الحياة ويصنع لنا الحياة.
هذا النهر هو السنة. والسنة تعني الطريق.
القرآن دليلنا والسنة منارة الطريق.
إن لم نكن نملك منارة الطريق، وأخذنا بالسير في غياهب الظلام، فإن إيجاد طريقنا محال.
باختصار، إن مكة والمدينة يصنعان معاً الحضارة.
إن مكة والمدينة والسنة النبوية يشكلون لنا معاً خارطة الطريق.
هي خطة طريق راسخة ولدت وبدأت دعوتها في مكة، ثم وجدت الحياة في المدينة إذ أنشأت عصرها ووصلت الى مبتغاها.
نشأت وارتقت الحضارة العثمانية على هذه الأسس وقدمت للإنسانية جمعاء رحلة مثمرة. فقد حافظ العثمانيون من خلال نضالهم المستمر لخمسمئة على الطريق المستقيم الذي تهجه السلاجقة خمسمئة عام أخرى.
لقد أنشأوا لنا دار الإسلام الكريمة. دار الإسلام التي هي وطن للجميع.
إن الحضارة العثمانية قد تربع على عرش جميع الحضارات التي تغيرت، بدأت وانتهت مع مرور التاريخ. إنه العالم الذي يعرف كيف يحافظ على هويته وعلى ما هو عليه وسط كل هذه الحضارات، ويعرف كيف يستفيد منها ويعبر بين هذه الحضارات بمنظار الوحي الإلهي.
إن هذه الحضارة لم تهضم الحضارات الأخرى حقوقها كما فعلت الحضارة الغربية.
بل على العكس من ذلك، فقد أثبتت الحضارة العثمانية أنه يمكن لجميع الأديان والثقافات والأعراق والحضارات أن تعيش معاً في سلام في وطن السلام ودار الإسلام.
وهذا هو عصب المسألة اليوم، أن تعيش الثقافات والحضارات المختلفة كل على طريقتها وتساهم معاً لأجل الإنسانية.
إن ما فعلته الحضارة الغربية من استعمار البلاد ومن ثم العقول، أدى إلى خلط الحابل بالنابل في الحضارة الإنسانية من خلال تهجين الأصول، وتشكيل أدوات الأنثروبولوجيا.
إن تجربة الحضارة العثمانية هي التجربة الحضارية العالمية / الكونية الوحيدة التي اعترفت بحق الجميع بالحياة والتي تعايشت مع الجميع بوئام.
لذلك فإن العالم حابل بالحضارة العثمانية.
العثمانية هي مستقبل الإنسانية
إن الدولة العثمانية كانت ملتقى القارات الثلاث، آسيا وأوروبا وأفريقيا. فهي العالم. والمركز الجغرافي للتاريخ الإنساني. هي القارة التي ولدت فيها الأديان والفلسفات والحضارات المختلفة وانتشرت منها إلى أصقاع العالم.
على تراب الدولة العثمانية يوجد 41 دولة اليوم، 35 منها في المناطق النائية.
لذلك يجب علينا أن نحفر التالي في عقولنا ونحفظه جيداً: لا يمكن فهم مشكلات العالم وتخطيها من دون فهم الدولة العثمانية.
لا يمكن إنشاء عالم جديد من دون فهم الدولة العثمانية.
الكلمة الأخيرة: يقول المؤرخ الكبير ارنولد توينبي: “العثمانية، هي مستقبل العالم”.
لماذا لا يستطيع / لم يستطع مؤرخ تركي أن يقول ذلك؟؟
وإذ أدركنا ذلك، فقد حان الوقت لتحقيقه في الواقع خطوة بخطوة.
تركيا بالعربي | يوسف قبلان – يني شفق